النظامُ السوريّ "البطريركي" وعلمانيةُ الأقليات الدينية
لسانُ حال الواقع السوري يقول إنّ علمانيةَ الأقليات لا تعبّر مطلقاً عن تقدميّةٍ أقلوية، في وقتٍ دعمت فيه استبداداً يتاجر بالديمقراطية، ويدوس مبادئها بممارساتٍ طائفية مستورة ومعلنة. إثر ذلك، تمّ تخفيضُ مفهوم "المواطنة" إلى مستوى الولاء الحزبي أو الشخصي، ومفهوم الشعب إلى مستوى "الرعية" التي ينحصر دورها في التطبيل والتزمير، ولا شيء آخر. ولا يزال التساؤلُ حول علمنةِ الدولة السورية موضع سجال، بينما ينسحب شكلُ الأسرة الأبوية (البطريركية) على طبيعةِ الحكم السياسي. فمكانة "رأس الدولة" تشبه قدسية "ربّ العائلة"، حيث باتت صلاحياتُ الحاكم خطاً أحمر، لا يجوز انتقادها أو المطالبة بالحدّ منها. وبدلاً من أن يعيدَ تعريف بعض المفاهيم، متجاوزاً مرجعيتها النصية، غير القابلة للاجتهاد، بما يسمح بالتعايشِ المنشود، كإيضاح، مثلاً، أنّ العلمانيةَ تعني فصل الدين عن الدولة، ولا تعني إلغاءه أو محاربته، استثمر النظامُ، بمكرٍ استثنائي، توجّس الأكثرية من انفتاحِ الأقليات الدينية، ليحول دون تحوّلها إلى جزءٍ عضوي من الثقافةِ السورية، فقام بتشوّيه وجه العلمانية، باعتبارها مفهوماً برجوازياً، بالمعنى السيئ أو التحقيري للوصف، والتي لا بدّ ستنزع صفةَ القدسية عن أيقونة "الرئيس الخالد"، لتأخذ حجمها الطبيعي. كذلك عن أيّ إنتاجٍ بشري مثل الأيديولوجيات الحزبية والجيش والمخابرات. وليس في تقديرنا تصوّرٌ خاطئ أنّ وصولَ شخصٍ "غير سنيّ" إلى منصبِ رئيس الجمهورية عام 1971 كان يجب أن يُنظر إليه تطوّرا في الاتجاه الصحيح، في ظلّ مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ ودستورية، للتأكيد على أنّ سورية لم تكن يوماً دولة إسلامية متشدّدة، بل هي مجتمع يتسامح مع أقلياته.
ولتجنّب إنتاجِ التصورات الخاطئة إلى ما لا نهاية، علينا أن نعي جيداً أنّ استقرارَ النظام السوري لم يعنِ أنّ البلادَ هربت من نير الطائفية تماماً إلى حياةٍ مدنيّةٍ تقدميّة، وإن لم يتفجر وضعها الداخلي بسبب نظامها المركزي القوي، فتاريخُ الجيش السوري، منذ الانتداب الفرنسي، مكّن نخبةً من الضباط من السيطرة عليه، كطبقةٍ أقلويةٍ طموحةٍ صعدت على أنقاضِ التوترات والانقلابات، والتي أعلنت بدايةَ عصرٍ جديدٍ في النظر إلى "الأب القائد" باعتباره الحقيقة الأولى والوحيدة. وليس وصف تحوّل سورية منذ الستينات بأنه كان نحو التطييف جديداً في المشرق العربي، فهو يحاكي واقع المنطقة الديني، ويؤكّد أنّ الطائفيةَ من طبيعة هذه المجتمعات، ولا تُفرض فرضاً. الأمر الذي يسمح لنا بالاستنتاج أنّ المجتمعَ المدني لا يلتقي مع دولةِ الاستبداد وحكم الفرد، ولا دولة الفئة أو الطغمة، دينية كانت أو علمانية.
مقولة "علمانية الأقليات" مرتبطةٌ بالنظام الرجعي الفاسد وبالقمع والاستغلال الذي يُلهي الناس عن الاهتمام بالقضايا الجوهرية
ومن البديهيّ أن تعيدَ العلمانيةُ بناءَ الانتماءات الأولية ورفعها إلى مستوى أرقى. بهذا المعنى، يكفّ الوطنُ عن كونه قطعة أرض، وتكفّ الدولةُ عن كونها مجرّد حدودٍ سياسيةٍ مُعترف بها. لكن ما حصل أنّه، مع دخول الفرنسيين وتعاونهم مع الطوائف المهمشة، العلويّة خصوصا، ثم مع صعودِ الفكر الأوروبي والأحزاب العصرية برزت الأقلياتُ الدينية التي كانت دوماً في الكواليس، أو في أسفل السلم الاجتماعي والسياسي السوري، ليتبدّلَ الحال جذرياً. وكان انتشارُ القوى اليسارية، الريفية الأصول، معطوفاً على عددهم الكبير في القوات المسلحة، نذيراً بصعودِ الأقليات واشتدادِ عودهم. وإذا كان أهمُّ امتحانات الديمقراطية هو كيف تتعامل مع الأقليات، ذلك أنّ صعودها في البلدان العادية ظاهرة صحية، تؤدّي، مع الوقت، إلى زوال الطائفية، ولكن ما حصل في سورية من صعودٍ صاروخيّ للأقليات بين 1965 و1975 لم يكنْ تحوّلاً واعياً نحو الديمقراطية لبناء دولةِ الرعاية المدنية، ومحو الطائفية تدريجياً في النفوس والنصوص، فلم يكن ثمّة برنامجٍ مرحلي لهذه الغاية، أو مراعاة للأغلبية السنيّة في مسعى اليسارِ السوري إلى فرضِ الثورة العلمانية على الاقتصاد والدولة والمجتمع من فوق، فاقتصر الأمر على دمجٍ عشوائي للأقليات في الدولة وتطويرِ الريف بطرقٍ اعتباطية، ابتدعها أشخاصٌ في السلطة كرداتِ فعلٍ على مظالم تاريخية، أو تطبيقاً لشعاراتٍ سياسية من دون تخطيط. وإن افترضنا أنّ نيات هؤلاء حسنة، فقد غلبتْ عمليةَ دمج الأقليات المصالحُ الفردية ومفاضلةُ أبناء المنطقة والمذهب ضمن اقتناعٍ طوباوي أنّ الطوائفَ في سورية ستقبل بالتغييرِ الاجتماعي، وعفا الله عما مضى.
تكفير العلمانية في مجتمعٍ تحوّل إلى سديمٍ بشريّ مفكّك ومهلهل إحدى نتائج تعثّر تطوّرِ المجتمعات المهزومة
ولندرك حجمَ الممانعة الخبيثة المقنّعة لتحويلِ سورية إلى دولةٍ ديمقراطية، وعلى الرغم من أنّ المجتمعَ السوري تقبّل بعض مظاهر الحياة المدنية العصرية، فقد كان "النظام الأقلوي"، في بداياته، متشدّداً عقائدياً ومعادياً للتدين، فوضع حدوداً للتثقيف الديني، وتولّى مسألة تسميةِ رجالات الدين وإدارةِ المؤسسات الدينية. وعندما التقت سورية ومصر وليبيا على إقامةِ اتحاد الجمهوريات العربية عام 1971، وعزمت على وضع دستورٍ للاتحاد، قاومت سورية بشدة (ولاعتبارتٍ تتعلق بدينِ الرئيس بالطبع) ضغطَ مصر وليبيا لجعلِ الإسلام دين الدولة، ونجحت في فرض نصّ اعتمدته منذ عام 1950 أنّ الإسلامَ هو أحد مصادر التشريع وليس الوحيد. حيث خطا الدستورُ السوري عام 1969 نحو العلمنة، بحذفه، مثلاً، بنداً يحدّد ديانةَ رئيس الجمهورية، وأصبح قسم "أقسم بشرفي ومعتقدي" بدلاً من "أقسم باللّه العظيم". لكنّ الدستورَ عُدّل مجدداً عام 1973، وعاد القسمُ باللّه وتثبيتُ ديانة الرئيس، وقام حافظ الأسد بخطواتٍ تصالحيةٍ مع النظام العلماني المزعوم والشؤون الدينية بإعادة الاعتبار لسنّةِ المدن، بما يضمن مصالحه ويحمي عرشه.
أثبتتِ التجربةُ السورية أنّ تكفيرَ العلمانية في مجتمعٍ تحوّل إلى سديمٍ بشريّ مفكّك ومهلهل هو إحدى نتائج تعثّر تطوّرِ المجتمعات المهزومة، والتضحيات المقدّمة في سبيلها ليست سوى تعبيرٍ عن إدراكٍ عميقٍ بالعقم والاستحالة، وأنّ "علمانية الأقليات" مرتبطةٌ بالنظام الرجعي الفاسد وبالقمع والاستغلال الذي يُلهي الناس عن الاهتمام بالقضايا الجوهرية، ويجعلهم مخدّرين لا يثورون على من استعبدهم. لذا كان لا بدّ لها أن تعودَ لتثير جدلاً واسعاً في ضوء الانتفاضة الشعبية عام 2011، وهل ستكون في صالح تعميقِ التعايش الاجتماعي والاندماج الوطني، أم ستكون بوابةً لصراعاتٍ دينية ومذهبية وقومية، خصوصا أنّ هناك من ينفخ في الرماد، ويسعى إلى تضخيمِ الهواجس والمخاوف. والأقليات التي لم تعثر على آليتها الخاصة في إنتاجِ الشرعيةِ السياسية بعيداً عن منطقِ الغلبة بالعنف، وعلى الرغم من تمادي النظام في القتلِ والتدميرِ والارتهان لدولٍ خارجيةٍ مقابل بقائه، وعلى الرغم من التواطؤ المتبادل بين النظام ومؤسسة الدين الإسلامي الرسمي الحليف، لم تجرؤ الأقليات على مراجعةٍ جديّةٍ لموقفها من النظام المستبدّ، حتّى حين مارستْ أجهزته الأمنية البطشَ والتشبيح ضد أبنائها أنفسهم، أو حين أعطى وزارةَ الأوقاف سلطاتٍ غير مسبوقة في الرقابة على التعليم وعلى مؤسسات الدولة، وحتّى حين اشتدتْ سياساتُ مغازلة التيار الديني الأصولي بعد 2006، العام الذي سُمح فيه للقبيسيات بالعمل شبه العلني، مقابل حلّ جمعية المبادرة الاجتماعية (2007) لأنها أجرتْ استبياناً ميدانياً عن قانونِ الأحوال الشخصية العامّ. لقد أصبحت الأقلياتُ مرهونةً بالنظام غير مرهونٍ بها. ولا يخفى على أحدٍ أنّ الجمهورَ السوريَّ منقسمٌ اليوم، ليس على أساسٍ علماني ومضادّ للعلمانية، بل على أساس مع النظام أو ضدّه، في ظلّ غيابٍ مفجعٍ لطرفٍ مؤثر يؤكد ضرورةَ قيامِ مجتمعٍ مدنيّ ديمقراطي بعيدٍ عن الفوضى الفكرية وعبثيّة التطبيق، قريبٍ إلى المخيَّل الاجتماعي والوعي الجمعي السوري.