"النسخة السورية"... موجة جديدة من الثورات العربية؟

05 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

ما تزال هنالك حالة من القلق والشكوك والهواجس لدى العديد من الحكومات والأنظمة العربية من التطورات المستجدة أخيراً في سورية، والتي أدّت إلى انهيار نظام بشّار الأسد وعودة الإسلاميين إلى ملعب التغيير، ولكن عبر بوابة جديدة تتمثّل بالثورة المسلّحة الداخلية، لا من طريق الإخوان المسلمين والعمل الديمقراطي، ولا من طريق الجهادية العالمية والأعمال العنيفة ضدّ المدنيين والشرطة، بل هي صيغة مختلفة بالكلية، وذات طبيعة متصالحة حتى مع الغرب الذي تقاطر مسؤولوه على زيارة دمشق ولقاء "القادة الجدد".
عملت قيادة هيئة تحرير الشام لتقديم كمّ كبير من رسائل التطمين إلى الداخل والخارج، إلى العرب والغرب، عشيّة دخول دمشق، في إدراك منها لما يحمله موضوع "الإسلام السياسي" من مخاوف ودلالات لدى عديد من الجهات الدولية والإقليمية. وبالرغم من حالة الانفتاح من بعض الدول العربية والغربية على الواقع الجديد، ما تزال حكوماتٌ عديدة متخوّفةً، ويرى أحد السياسيين العرب (في جلسة مغلقة) أنّ التطوّرات في سورية أعطت الإسلام السياسي قبلةَ الحياة مرّةً أخرى، وسواء صدّر الحكم الجديد في سورية الثورة أو لم يفعل، فإنّ المشكلة هي في العدوى وبثّ الروح من جديد للأفكار الثورية، ولمفهوم التغيير الذي كاد أن ينتهي في العالم العربي، بعدما انتهى حكم الإخوان والإسلاميين في كلٍّ من مصر وتونس والمغرب (حكومة العدالة والتنمية)، فهي صفحة كان يرغب النظام الرسمي العربي في طيّها، لكن من الواضح أنّه لم تكن لحظةً عابرةً، بل مرحلة أو حِقبة جديدة من تاريخ الشعوب العربية.
لا يوجد خيار آخر استراتيجي أمام المجتمعات والشعوب العربية إلّا البحث عن أفق سياسي. وإذا كانت الموجة الأولى من "الربيع العربي" انتهت بمآسٍ وكوارثَ في دول عربية عديدة، كذلك الحال في الموجة الثانية في بعضها خاصّة في السودان، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الحلم بالتغيير أو الخروج من الواقع القائم انتهى، بخاصّة أنّ أغلب النظم العربية لم تتعلّم الدرس ولم تُدرِك أنّ الاستقرار المرتبط بعامل الخوف ليس حقيقياً، بل وهمياً وسرعان ما يزول، بل إذا دقّت ساعة الحقيقة فإنّ الجيوش هي أيضاً ليست مستعدّةً للدفاع عمّن ترى فيه مستبدّاً وفاسداً، كما حدث مع جيشَي صدام حسين وبشّار الأسد. ولا توجد دلالة أكبر من أن يهزم العسكريون بسرعة وبلا تردّد فور الدخول في مواجهة مع ثورة مسلّحة، وأن يكون الخيار الرئيس لعشرات الآلاف من أفراد الجيش استبدال الثياب المدنية بالعسكرية والهروب إلى المنازل.
تتمثّل إحدى الدلالات الخطيرة في انهيار الجيش السوري بصورة كارتونية أمام الثوّار المسلّحين، ما يجعل مئات الملايين من العرب يتساءلون عن مبرّرات العسكرتاريا في العالم العربي، ولماذا تُصرَف مليارات الدولارات سنوياً على جيوش في وقت كانت فيه غزّة تباد أمام أعين الجميع، من دون تدخّل أيّ جيش أو قوات عربية، وبدعم غربي. ما حدث بعد "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة الإسرائيلية، ثمّ التطوّرات الكُبرى في سورية، بمثابة تراكمات حالة الانهيار السياسي والاستراتيجي العربي، وهي استمرار لمرحلة "ما بعد الربيع العربي" (أو أيّاً كانت التسمية التي يفضلها بعضهم)، ففي المحصلّة، نحن أمام حالة غير مستقرّة، وأمام أنظمةٍ تعاني أزمةَ شرعيةٍ عميقة وجذرية، وما حالة الاستقرار التي تمرّ بها دولٌ عديدة إلّا وهم، لأنّ الأرض التي تقف عليها الحالة العربية بأسرها تتخلخل جميعاً، فما عادت الشروط التاريخية التي انبثقت منها "سايكس بيكو" قادرةً على حمل المرحلة الراهنة، ولم تعد الأيديولوجيات التي حكمت العالم العربي، ومصادر الشرعية التي سادت عقوداً قادرة على مواجهة التغيّرات والتحوّلات الهائلة في العالم العربي. هنا بيت القصيد، وربّما الدلالة الأكثر خطورة، فإذا كان مسار الثورات السلمية والأساليب الديمقراطية وصل إلى الحائط، فإنّ البديل القادر على إيجاد حلول للمواطن العربي المقهور والمغلوب على أمره، ليس سلاح الخوف (أو التخويف) ممّا قد يصيبه من مصائب، فهو سلاح آني ومؤقّت، إنّما الحلول تأتي عبر التنمية الاقتصادية والمجتمعية والثقافية، ووجود مشروعات توافقية يؤمن بها المجتمع أو (و) الحرّية السياسية والديمقراطية، وإمّا الثورة.
يا سادة... من الواضح أنّ المنطقة العربية ما تزال محتفظةً بمفاجآت وتحوّلات كبيرة.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.