المهرجان والمهرّجون
مشهد واحد لا يتغيّر من الريف إلى المدن المصرية، حشد أعداد كبيرة من المواطنين على دقّات الطبول وأنغام المزمار البلدي لاحتلال مكاتب الشهر العقاري، وإغراقها بتوكيلات لترشّح الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي لم يعلن المجلس العسكري ترشيحه بعد، وقطع الطريق على كل من يفكّر في استصدار توكيل لأي مرشّح منافس.
تنشر كل مواقع الصحف المصرية الخبر ذاته كلّ نصف ساعة تقريباً، مع تثبيت المضمون وتغيير الصورة المرفقة بالخبر، والعنوان لا يتغيّر: آلاف المواطنين يتوافدون على مكاتب الشهر العقاري لتأييد السيسي مرشحًا.
بالطبع، لم تذكر هذه الصحف ولن تشير إلى الإرهاب المنظّم الواقع على جمهور السياسي الشاب أحمد طنطاوي من مجموعات محشودة لمنع وصول مؤيديه إلى حيث تصدُر التوكيلات، وفي توقيت واحد مع إطلاق زفّة التوكيلات، تزفّ الميديا خبر شراء المدعو صبري نخنوخ، الخارج من عقوبة السجن بعفو رئاسي بعد حبسه بتهم البلطجة، شركة فالكون للأمن والحراسة بعد مفاوضات مع مالكيها، ليترأس الشركة، بدلًا من الوكيل السابق لجهاز المخابرات.
ولمن لا يذكر "فالكون"، فهي، وكما كتبت عنها في العام 2014، بعد إسناد مهمّة السيطرة على حرم الجامعات المصرية والنشاط الطلابي فيها، ليست مجرّد شركة للخدمات الأمنية، بما تشمله من أعمال التجسّس المجتمعي، في خدمة سلطة نظام 2013، بل يمكنك أن تقول إنها التلخيص الوافي للمنظومة القمعية التي تمرح في مصر، وتطلق على نفسها اسم "نظام سياسي". وبهذا المعنى، تنتقل "فالكون" من كونها منظومة أمنية إلى نظام حكم، أو بالحدّ الأدنى تعبير دقيق عن نظام استبدادي يحيا ويتكاثر في أحراش الهواجس الأمنية. وبالمعنى ذاته، يتحوّل النظام من كونه سلطة سياسية جاءت عبر عملية انتخابات تمّت "هندستها" لكي تُفضي إلى وصول شخصيةٍ أمنية للحكم. يتحوّل إلى تحالف أو اندماج بين أمنيين، حاليين وسابقين، للاستثمار في أضخم مشروع للخوف والفقر عرفته البشرية.
هذه الشركة، كذلك، سبق لها أن حصلت على مقاولة تأمين وحراسة وتغطية مرشّح الثورة المضادة في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012، كما كرّرت المهمة ذاتها مع انتخابات المرشّح الوحيد فيما سميت انتخابات 2014.
الإعلان عن امتلاك نخنوخ العصر شركة فالكون بالتزامن مع بدء فعاليات العبث السياسي الذي يصر بعضهم على تسميته انتخاباتٍ رئاسية يعدّ رسالة شديدة الوضوح والصرامة بأن فكرة النزاهة أو سلامة الإجراءات أو المساواة بين من يطلق عليهم مرشّحين ليست واردة على الإطلاق، وأن المسألة كلها لن تكون سوى مهرجان مبايعة تنظّمه مؤسّسات الدولة، وتتولى تأمينه "فالكون"، ومن ثم يصبح استمرار مرشحين للمعارضة في هذه الملهاة البدائية هو مشاركة في عرضٍ شديد الابتذال.
كان من الممكن، حتى ثلاثة أيام مضت، تصوّر أن بإمكان المرشّح الافتراضي، أحمد طنطاوي، أن يفرض معركة سياسية على السلطة، تقوم على الأدوات السياسية المعروفة في العالم كله، خطاب وخطاب مضاد وسجالات ومناظرات، غير أن أيًا من ذلك لن يكون مسموحًا به مع معطيات الصورة الحالية، التي تنطق إن كلّ ما يريده النظام هو تجاوز حالة "ما حدّش راح" التي اتسمت بها مسخرة العام 2018 وما بعدها في مولد التعديلات الدستورية.
وبحسب تعبير رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، المستشار وليد حمزة، في تصريح معمّم على الصحف "أن التواجد أمام صناديق الاقتراع في كل الاستحقاقات الدستورية يضمن لبلادنا وأبنائنا مستقبلا أكثر إشراقا وازدهارا". والحال كذلك، أيّ تأخير في الانسحاب من هذا المهرجان المبتذل يعني الانتحار السياسي بالمشاركة في عملية إهانة لمعنى الانتخابات ومفهوم الحياة السياسية بشكل عام، وقبل ذلك إعدام لقيمة المعارضة الجادّة، وتحويلها إلى مجرّد مهرّجين في مهرجان السلطة.
أكرّر مجدّدًا: فكرة الانتخابات مع أنظمة تمقت الديمقراطية ليست سوى مصيدة أنيقة، تتألّق أضواؤها، فتهرع إليها الفريسة تلو الأخرى، بينما القنّاصة الماهرون يعتلون سطح الكرنفال، مطلقين النار على كلّ من يقترب، ومكبّرات الصوت تنادي: هلمّوا إلى العرس الديمقراطي ... هلمّوا إلى الجحيم.