المنصّات الرقمية... التوجيهات ولا توجّهات

27 اغسطس 2024

(Getty)

+ الخط -

تراجع تأثير الصحافة التقليدية، ولم يعد ممكناً إنكار دورٍ كبير باتت تلعبه المنصّات الرقمية المستفيدة من الثورة الصناعية الرابعة، بما انتهت إليه من إمكانات اتصالية مهّدت لظهور وسائل عديدة كانت تعرف بداية بوسائل التواصل الاجتماعي، والتي يرى الكاتب هنا أن من المهم اليوم أن نعيد ابتكار تسمية جديدة لها، بعدما تحوّلت إلى أدوات تأثير وصناعة رأي عام، وأخذت مكانة الصحافة التقليدية المعروفة، مرئية ومطبوعة ومسموعة، بل ابتكرت تلك المنصّات الرقمية وسائلها الخاصة بها، والتي تحوّلت شيئا فشيئا إلى صاحبة اليد الطولى في إحداث التأثير المطلوب في الجمهور.

في أربعينيات القرن المنصرم، قدّم النمساوي المختص بعلوم الاتصال والدعاية إدوارد بيرنيز مفهوما جديدا للتعامل مع الجمهور، أطلق عليه اسم "هندسة الجمهور". ومن بين ما تقدّمه تلك الأطروحة كيفية السيطرة على الجمهور والتأثير بهم من خلال استراتيجية محدّدة، تهدف إلى صناعة دعاية محدّدة تستهدف فئة معينة، وتحاول التأثير بهم من خلال إيجاد نماذج مؤثرة وقادرة على إحداث التأثير المطلوب، خدمة لمصلحة جهة ما، شركة، دولة، تنظيم، فكرة، وغيرها. وركّز هذا المفهوم الذي دبجه صاحبه في كتابه "هندسة القبول" على أن العقل الجمعي يجعل من السهولة بمكان السيطرة على الجماهير وإخضاعهم لفكرةٍ ما، تماماً كما كان يفعل غوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية، والذي اعترف باستفادته الكبيرة من أفكار بيرنيز.

في ظل سطوة المنصّات الرقمية ووسائل التواصل الحديثة اليوم بات من المهم إعادة تعريف ما يجري في هذا الفضاء الذي يبدو أن آلية السطوة على خيارات الجماهير باتت أسهل، وإنْ كانت المفاهيم أعقد قليلا، فعملية قيادة الجموع وتوجيههم والتأثير بهم عبر المنصّات الرقمية لم تعد تحتاج سوى إلى المال والقليل من الإدراك للدور المطلوب، ثم ما عليك إلا انتظار نضوج الثمار وقطفها، ولنا في ما يجري من سجالاتٍ على المنصّات الرقمية، وصلت إلى حد الحروب "الكلامية طبعا"، خير مثال على ذلك.

لن نذهب بعيداً، العراق على سبيل المثال، ومن واقع متابعة يومية لمجريات الحروب الرقمية بين تياراته المختلفة، نموذجٌ يمكن القياس عليه لمعرفة هذا الخطر الداهم الذي باتت تمثّله تلك المنصّات الرقمية من تعزيز رؤى بعينها على حساب أخرى، رؤى يُراد لها أن تكون هي الحقيقة بخلاف واقع الحال والمآل.

هناك جيوش مدرّبة "إلكترونياً" على خوض الحروب، تشبه تماما تلك الجيوش المسلحة التي كانت الدول تعدّها سابقا للحروب

تنشط مئاتٌ، إن لم نقل آلافٌ، من الصفحات والحسابات على مختلف المنصّات الرقمية، فيسبوك، أكس، إنستغرام، تيك توك، وغيرها، مدعومة من هذا الطرف أو ذاك، وكلٌّ يحاول أن يسوّق وجهة نظره، ويقدّم رؤيته لما يجري، وتحوّلت بعض تلك الحسابات، بمرور الزمن، إلى مصائد للاعتقال والاغتيال والتغييب والملاحقة، بعدما نجحت باستدراج مُعارض هنا وآخر هناك، ولم تكتفِ بالدور المأمول منها، وهو إحداث التأثير المطلوب وتسويق وجهة نظر معينة. وهنا مكمن خطر آخر من مكامن الحروب الرقمية التي تُخاض ليل نهار على مختلف المنصّات. اتهامات وصلت إلى موظفين في مكتب رئيس الحكومة العراقية، بتمويل صفحات ودعم مؤثرين، كان بعضهم يرتدي زيّ المعارضة سنوات، واتهامات أخرى طاولت وزارات ووزراء ونواباً، لدى كل منهم جيشه الخاص به، لترويج إنجازات بعضها وهميٌّ، لا وجود له أصلا.

يكفي أن تتفقّد الأخبار الآتية من العراق، وتكتشف أن هناك حربا وصلت إلى حد التصفيات الجسدية بين مؤثرات على المنصّات الرقمية، بعدما انكشف أمرهن وتبعيتهن، وتصفيات أخرى وصلت إلى الاعتقال والتغييب في السجون.

يخيّل إليك اليوم وأنت تتابع الصفحات الرقمية عن العراق أنك أمام بلد يعيش نهضة لا مثيل لها، بينما تخفي تلك الصفحات المموّلة واقعاً مأساوياً لبلد يسير كل يوم نحو قاع لا قرار له في ظل تفشي سطوة المليشيات المسلحة وتغوّلها حتى باتت أقوى من الدولة، بينما الواقع على المنصّات الرقمية يُخبرك بشيء آخر.

حروب المنصّات الرقمية التي تلاحقك على الصفحات والحسابات المختلفة الكثير منها مختلق، لا يعبّر، في أيّ حال، عن واقع الحال، فهناك جيوش مدرّبة "إلكترونياً" على خوض مثل هذه الحروب، جيوش تشبه تماما تلك الجيوش المسلحة التي كانت الدول تعدّها سابقا للحروب، جيوش مهمتها التأثير وخداع الجمهور عبر اتّباع سياسات معينة، في مقدمتها هندسة العقول.

حروب المنصّات الرقمية التي تلاحقك على الصفحات والحسابات المختلفة كثير منها مختلق

ليس كل ما تقرأه على المنصّات الرقمية حقيقياً، ليس كل ما تعتقد أنه يعبّر عن توجّهات هذا الشعب أو ذاك حقيقي، فقد غابت التوجّهات وإمكانية قياس الرأي العام بناء على ما يُنشر في تلك المنصّات وحضرت التوجيهات، لم نعد ندخل تلك المنصّات لمعرفة توجّهات الشعب الفلاني. وإنما لمعرفة التوجيهات التي تسعى كل جهة إلى أن تدير معركتها الخاصة، يمكن القول، ببساطة، إن الشعب الذي وجد في تلك المنصّات، في لحظة ما، وسيلته للتعبير عن رأيه، قد اختفى في ظل سطوة الجيوش الرقمية والذباب الإلكتروني.

حريّاً، والحال كذلك، بوسائل الإعلام التقليدية أن تقتنص الفرصة، وتقدّم مادّة إعلامية وفق أطر احترافية تساهم في سد الفجوة المعرفية والثقافية التي أحدثتها المنصّات الرقمية المُسيّرة والمسيّسة. وبالتأكيد، يمكن للوسائل الإعلامية المحترفة أن تكون منافسةً من خلال منصّاتها الرقمية التي باتت تمتلكها، فقط كل ما تحتاجه الاحترافية بالطرح وتقصّي الحقيقة ودحض التزييف.

ما أحوجنا اليوم إلى إعلام موضوعي، قادر على أن يحقّق التأثير المطلوب في الجمهور ويشيع حالة وعيٍ تكون قادرة على إفشال مخطّطات تحويل المنصّات الرقمية إلى ساحة مهاترات واستعراض بطولات فارغة وتجييش الشعوب خدمة لأغراض، ليس منها مصلحة شعوب هذه المنطقة المغلوبة على أمرها.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...