الملاعب تحت أقدام الأمهات

18 ديسمبر 2022

جدارية في برشلونة للاعب المغربي أشرف حكيمي مع والدته (16/12/2022/Getty)

+ الخط -

اركض يا بنيّ.. اركض، فالراكضون فقط هم من يصلون إلى خطّ النهاية، وتعلّم من تجربتي أنا التي ركضت طوال حياتي لكي لا تجوع أنت وتعرى، ولو كنتُ وقفتُ مرّة واحدة في حياتي، لما كنتَ أنت هنا الآن، سيّد الملعب، ولا كنت نجمًا تطاردك الأضواء والكاميرات. لكن إياك أن ينسيك البريق أنك أمام صراع ثقافات تتدحرج مع الكرة التي تركلها بأقدامك يا بنيّ. هذه الحرب أدركها جيدًا مدرّبك وليد الركراكي الذي لم تُنسه حواري باريس أنه يحمل ثقافة أمة بأكملها رضعها من ثدي أمه.. والأمة أمٌّ في النهاية.. أليس كذلك؟ ولذا اختار هذا المدرّب الذكيّ أن يصطحبنا، نحن الأمهات معكم، لنكون سلاحًا فارقًا في معاركه، ليواجه ثقافة الفرد بثقافة الأسرة التي بعثرها الغرب وفكّكها، اصطحبنا معكم ليقول إن ثقافة الأسرة المترابطة هي التي تفوز في المونديال، لا ثقافة الفردية والأنانية والمثلية.

كان الركراكي يعرف جيدًا أن الأمّ هي نقطة قوة في الفريق لا تتاح للفرق الأخرى التي تضع أمهاتها في ملاجئ العجزة. وفي مقابل ذلك، كان يدرك أيضًا أن الأم نقطة ضعف ابنها إن رأى في عينيها دمعة انكسار عليه. ولهذا كنت أنت ورفاقك في الملعب خيولًا في أقصى لحظات جموحها، لتحظوا بومضة الفخار في أعيننا، وأنتم تسجّلون أهدافًا في مرمى العالم كله، هدفًا للهجوم، وآخر للدفاع، وثالثًا للوسط، فمن يدافع عن دينه وقيمه وأخلاقه وأسرته، يسدّد هدفًا في أعين من يزدري هذه القيم وحماتها. ومن يدافع عن ضعفاء العالم وفقرائه بمثل هذا اليقين المعجز، يسجّل هدفًا في عيون المستعمر الذي لم يتخلّص بعد من عقدة التفوّق، ومن يتحوّل من الدفاع إلى الهجوم في ومضةٍ تخطف القلوب والأنظار، من حقّه أن يسجّل هدفًا لا يردّ في قلب أولئك الذين ما زالوا يقسّمون العالم إلى أسياد وعبيد.

وكان الركراكي يدرك أن الحبال السرّية بين الأمهات وأبنائهن في عالمنا العربي لا تقطعها كل مشارط الغرب، وربما كان الأحرى أن نسمّيها في بلادنا "الحبال العلنية"، فنحن لا نخجل من أمهاتنا، ومستعدّون للرقص معهن في المدرّجات وأمام الكاميرات، ليفهم العالم أن الملاعب أيضًا "تحت أقدام الأمهات". وكان الركراكي يعرف أن هذه الحبال تتحوّل بعد الولادة من نقل الطعام إلى نقل الحبّ الذي لا ينقطع أبدًا بين الأمّ وابنها.

المهم يا بنيّ: هل تتناول إفطارك قبل المباريات وتشرب حليبك؟ إياك أن تكون قد تركت بقايا طعام وراءك، فهي نعمةٌ من الله. تمهّل لماذا تفتح أزرار قميصك، لا تراهن على المناخ الصحراوي، فهو قد ينقلب ليلاً إلى زمهريرٍ فتُصاب بالزكام، وجسدك لا يحتمل المرض، فقد أتعبتني كثيرًا في طفولتك. حسنًا هل أنت جاهز الآن؟ على بركة الله إذن، قلبي معك، ليت أباك كان معنا هنا ليشاهدك وأنت تركض خلف الكرة، لكنه يكره الكرة بسببك.. هل تذكُر عندما كنت صغيرًا كيف سبّبت لنا شجارات مع الجيران كلهم، بعد أن حطّمت زجاج شبابيكهم بكرتك اللعينة. أراك متبرّمًا كعادتك، أعلم أنك ينبغي أن تلحق رفاقك إلى الملعب فقد اقترب موعد المباراة، لكن دعني ألقي نظرة أخيرة على هندامك، وشعرك الذي تنسى دومًا تصفيفه، وكثيرًا ما تخطئ عند تفريق الخصلات عن بعضها عند جانب رأسك، وهو ما يسمّونه "فرق الشعر".. يا للطرافة، أنت لم تتقن الفرق أبدًا، على الرغم من أنك الآن تصنع أكبر فرق عرفه المونديال في تاريخه الطويل".

التوقيع: أمهات أشرف حكيمي وحكيم زياش ونور الدين أمرابط.. و430 مليون عربي.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.