المفاخرة بالمذبحة
مع الدخول إلى سنة عاشرة من عمر أبشع مجزرة بحقّ مواطنين بسلاح الأجهزة الأمنية، يبرُز تغيّر واضح في خطاب أصحاب المجزرة ومؤيديها، إذ ينتقلون إلى مرحلةٍ مختلفةٍ تمامًا في توصيفهم ما جرى، فتتحوّل الجريمة إلى إنجاز للسلطة، وتصبح المجزرة مفخرةً لأهل الحكم، بحسب المضمون الموحد المعتمد هذا العام، والذي تنطق به أصواتٌ مختلفة.
تدخل مذبحة رابعة العدوية 14 أغسطس/ آب 2013 ضمن مواد الدعاية الانتخابية لعبد الفتاح السيسي، وهو يستعد لاستعراض انتخابي ثالث لا يختلف في تفاصيله عن الاستعراضين السابقين في 2014 ثم في 2018، حيث يتم تناول المذبحة باعتبارها من مفاخر السلطة الحاكمة، فيقول أحدهم عبر شاشة التلفزيون "الدولة لا تحتاج لترويج مشروعات وهمية، وإنما تحقق الإنجازات على أرض الواقع والرئيس السيسي لا يحتاج للقطة، ويكفيه وقفة 3 يوليو و14 أغسطس من تطهير ميداني رابعة والنهضة من الإرهاب، ليظلّ زعيمًا بهما".
هكذا تصبح جريمة إراقة دماء آلاف الضحايا إنجازًا عظيمًا لمرتكبها يستحقّ عنه الزعامة والاستمرار في الحكم، والمضمون نفسه تجده عند آخرين، صدرت لهم التعليمات بالانتقال من حالة إنكار المجزرة إلى المفاخرة بها، ووضعها في صدارة الإنجازات، مع التوسّع أفقيًا ورأسيًا في عملية حرق التواريخ الموثّقة ومحاولة تكريس رواياتٍ يشوبها الجنون في سرد ما حدث، من نوعية ما يذهب إليه المحامي الإخواني المنشقّ عن الجماعة مختار نوح، من أن الاعتصام في ميدان رابعة العدوية كان بناءً على أوامر الغرب، حيث طلب من الإخوان إنشاء دولة جديدة في أي مكان في رابعة أو سيناء، على أن يكون لهذه الدولة مقوّمات.
هذا الجنون يقرأه الناس ويشاهدونه يوميًا منذ بداية شهر المذبحة، يجري ترويجُه على أوسع نطاق من دون أدنى خجل، أو احترام لعقول الناس، بالنظر إلى أن هذا الغرب المتّهم بصناعة الاعتصام هو ذاته الغرب المتواطئ لتمرير المجزرة من دون إجراء تحقيقٍ دوليٍّ تشرف عليه الأمم المتحدة في وقائع الجريمة التي بثّت على الهواء مباشرة، وشاهدها العالم بأسره.. كما أن هذا الغرب هو الذي انحاز إلى اعتداءٍ صريحٍ على القيم الديمقراطية التي طالما نادى وبشّر بها.
ما تدور محاولاتُ تكريسه عن تاريخ المذبحة تكتيكٌ جديدٌ كليًا يقوم على تصنيع تاريخ مغاير اعتمادًا على أن بالإمكان منع الرواية الأخرى الحقيقية أو مصادرتها، والقدرة على حجبها في ظل واقع جديد يمرح فيه القتلة والسّفاحون، كما فعل بشّار الأسد في ظهوره الإعلامي بعد طول اختباء، مستخدمًا أسلوب الهجوم بدلًا من الدفاع والتبرير، وهو ما ينفّذه طوال الوقت الاحتلال الصهيوني في سردّيته عن فلسطين، إذ يتكلّم المستعمرون بأنهم أصحاب الدار، وضحايا الغزاة الفلسطينيين الذين يروّعونهم في بلدهم، ويجدون غربًا متواطئًا مع هذه السردية وعربًا أشدّ تواطؤًا بالصمت والسكوت واستهداف الصوت المضادّ لهذه الجرأة على التاريخ.
هكذا يصير الاحتلال ضحية أصحاب الأرض الأصليين، وبشّار الأسد بسلسلة جرائمه ضد الإنسانية هو المجني عليه بواسطة 16 مليونًا من الجناة حملتهم أمواج البحر إلى المنافي، وتصبح جريمة "رابعة" مفخرة لمرتكبيها، ولم لا وهناك من يطلب ودّ الطغاة والمستبدّين، ونخب سياسية وحقوقية أغلقت على نفسها دوائرها الضيقة وأصبحت حقوق الإنسان عندها هي حقوق الشلة الصغيرة والأصدقاء؟
هي حالة عامة من الاعتياد على سفك الدماء واستباحة المختلفين تحت زعم الدفاع عن مدنيّة الدولة، وهنا يصبح دور بعض النخب المتناغمة مع الفاشية السلطوية، في إراقة دماء الناس في رابعة، يفوق دور من ضغط على الزّناد، مفرّغاً الرصاص في أجساد الضحايا، أو أمر ببدء المذبحة، أو اختار لها ساعة الصفر.