المغرب الكبير في‮ ‬مهب الأزمة التونسية المغربية

30 اغسطس 2022
+ الخط -

لم‮ ‬يَحِدْ‮ أستاذ التاريخ المعاصر في‮ ‬جامعة السوربون، بيير فيرموران،‮ ‬عن الصواب كثيرا، عندما تنبأ‮ بأن‮ "‬منطقة المغرب العربي‮ ‬بأسرها على وشك الانهيار بسبب أزمة الطاقة والغذاء‮‬،‮ ‬وانعدام الأمن في‮ ‬منطقة الساحل والخلافات بين الجزائر والمغرب". لم‮ ‬يخطر بباله ربما،‮ ‬لحظة تصريحه هذا‮، ‬يوم‮ ‬82 أغسطس/ آب الجاري،‮ ‬أن توقّعاته ستتعزّز بالأزمة التي‮ ‬طرأت بين المغرب وتونس،‮ ‬بسبب استقبال رئيس تونس، قيس سعيّد، زعيم الانفصاليين في‮ ‬جبهة بوليساريو،‮ ‬لحضور قمة "تيكاد‮ ‬8‮" ‬التي‮ ‬تجمع دولاً أفريقية واليابان‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‬تمسّك المغرب الرسمي‮ ‬بالصمت البليغ‮ ‬في‮ ‬التعليق على مجريات الأحداث في‮ ‬تونس،‮ ‬سواء كانت ذات صلة بالمغرب نفسه،‮ ‬أو لها علاقة بالتطورات الداخلية لتونس ذاتها،‮ ‬كما تتفاعل مع ذلك عواصم عربية كثيرة‮. ‬وكان أكبرَ امتحان لهذا الموقف الحيادي‮ ‬المفكّر فيه الموقفُ التونسي‮ ‬ذو العلاقة مع قضية المغرب الأولى،‮ ‬أي‮ ‬قضية الصحراء،‮ ‬حيث تمسّك المغرب بعدم إعلان أي‮ ‬موقفٍ تجاه تونس قيس سعيّد، عندما امتنعت عن التصويت في‮ ‬مجلس الأمن على قرار‮ ‬يخصّ‮ ‬قضيته الأولى،‮ ‬هو القرار‮ ‬2602‬ الذي‮ ‬حظي‮ ‬بتفاعل إيجابي‮ ‬لـ13‮ ‬ دولة،‮ ‬وامتناع اثنتين،‮ ‬روسيا وتونس‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وكان لافتا بالفعل أن الرباط التزمت الصمت المطبق حيال هذا الموقف في‮ ‬أكتوبر/ تشرين الأول الماضي،‮ ‬خصوصا أن تونس كانت،‮ ‬بشكلٍ ما،‮ ‬الصوت العربي‮ ‬الأفريقي‮ ‬في‮ ‬مجلس الأمن،‮ ‬كما أن الموقف كان مخيّبا للآمال لقطاع واسع من ‬الرأي‮ ‬العام المغربي‮ ‬الذي‮ ‬أَلف نوعا من الحياد التونسي‮ ‬في‮ ‬قضيةٍ ملتهبةٍ في‮ ‬منطقة المغرب الكبير‮. ‬والمثير حقا أن الموقف التونسي‮ ‬أثار جدلا واسعا داخل تونس أكثر منه داخل المغرب،‮ ‬لاعتباراتٍ‮ ‬عديدة،‮ ‬منها أن تونسيين كثيرين رأوا فيه‮ "‬جيوستراتيجية انعزالية‮" ‬دفعت تونس إلى معسكر ‮.. ‬موسكو!

ستخرج تونس من حيادها،‮ ‬وبالتالي‮ ‬ستجد صعوبةً، إن لم نقل استحالةً، في‮ ‬الحديث إلى ‬الرباط

بغض النظر عن تفاصيل ما وقع،‮ ‬والذي‮ ‬سارت بذكره الحوليات الدبلوماسية المرافقة للحدث،‮ ‬فلا أحد سيُغامر بالتفاؤل‮، ‬واستعطاف الحظ‮ ‬في‮ إخراج المغرب الكبير من دائرة الموت النهائي،‮ ‬أو على الأقل الموت الدماغي‮ مدة جيل أو جيلين‮، ‬بعدما خرجت تونس من دائرة الحياد،‮ ‬في‮ ‬قضية تلغم المنطقة وتقاس على ضوئها مواقف الدول‮، ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬طالما‮ ‬غذّت الحلم المغاربي‮ ‬بمبادراتها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ولا أحد أيضا سيلغي‮ من مستقبل الاحتمالات‮ ‬انطلاق قطار آخر،‮ ‬يزيد من التوتر في‮ ‬منطقة صارت مفتوحة‮ ‬على أسوأ الاحتمالات‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ فقد خرجت ليبيا،‮ ‬بالرغم منها، من دينامية المغرب الكبير،‮ ‬بفعل تفكّك الدولة واستعصاء الحل السياسي،‮ ‬وتحولها إلى نفق الاستحالة‮، ‬من حيث العثور على حل سلمي‮ ‬لتناقضات مكوّناتها السياسية،‮ ‬من جهة، ووجود‮ ‬رهانات إقليمية ودولية بالكاد تخفي‮ ‬نفسَها في‮ ‬الساحة من جهة ثانية‮.
وما زال القطب المغاربي،‮ ‬أو الدينامو المنتظر أن‮ ‬يقود المغامرة المغاربية، بل الذي‮ ‬سبق له أن احتضن إعلانها الأول، أي‮ ‬الجزائر والمغرب، في‮ ‬لحظة توقف تاريخي‮،‮ ‬مع القطيعة المعلنة‮ ‬من طرف واحد بين البلدين،‮ ‬وأيضا بسبب تشعّبات الوضع الإقليمي‮ ‬وتغير قواعد الاشتباك في‮ ‬المنطقة،‮ ‬بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتحوّل منطقة المتوسط إلى ساحة‮ تنافس ‬دولي‮ ‬وإقليمي‮، عسكري‮ ‬واستراتيجي‮.
‮وفي‮ ‬الوضع الحالي،‮ ‬ستخرج تونس من حيادها،‮ ‬وبالتالي‮ ‬ستجد صعوبةً، إن لم نقل استحالةً، في‮ ‬الحديث إلى ‬الرباط‮، ‬باعتبارها ممرّا إجباريا في‮ ‬أية خطوة تنسيق أو وحدة مغاربية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ والحال أن تونس ظلت ترعى هذا الحلم المغاربي،‮ ‬بفعل توازناتها الدقيقة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬وبسبب مكر الجغرافيا الذي‮ ‬وضعها بين دولتين قويتين نفطيا وعسكريا‮، ‬متقاربتين في‮ ‬النشأة العسكرية للدولة، هما ليبيا والجزائر‮، في‮ ‬حين ظلت تونس قطبا ليبراليا‮ ‬يحظى بمتابعة واسعة‮ ‬تضعها القوى الدولية في‮ ‬مرتبة فريدة، ما‮ ‬يجعل الاستقطاب الذي‮ ‬تخضع له قويا‮، ‬وأي‮ ‬تحرّك لا توازن فيه‮ ‬يصعب تجاوزه أو بناء بديل له‮ ‬غير محفوف بالمخاطر.

سبق أن دخلت المنطقة المغاربية في تقاطعات دولية،‮‮ لكنها لم تخضع لمثل الحدّة الحالية

‬سبق أن دخلت المنطقة المغاربية في تقاطعات دولية،‮ ‬لعل أهمها استقطابات المعسكرين، الغربي‮ ‬والشرقي،‮ لكنها لم تخضع لمثل الحدّة الحالية. ومن المفارقات أن أزمات المغرب الكبير تتواصل وتتعمّق،‮ ‬في‮ ‬وقت ‬تعلن فيه قوى خارجية‮، منها ألمانيا وإسبانيا‮‬،‮ ‬وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي،‮ ‬عن ضرورة‮ "‬تعزيز دور المغرب الكبير‮ في‮ ‬الاستقرار الإقليمي" ‬كما ورد ذلك في‮ بيان‮ وزيرة ‬خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، على أثر زيارتها المغرب الأسبوع الماضي‮. ‬وكان لافتا أن الرئيس الفرنسي‮ ‬السابق،‮ ‬فرانسوا هولاند،‮ ‬كتب‮ ‬يدعو إلى استئناف النشاط المغاربي‮ ‬الأوروبي‮، ‬وألحّ في‮ ‬مقالة له، صدرت في‮ ‬8‮ ‬أغسطس/ آب الجاري،‮ ‬على صفحات اليومية الفرنسية‮ "‬لو فيغارو‮" ‬على‮ "‬استعجالية وضرورة استئناف التعاون الفرنسي‮ ‬المغاربي‮، ‬وتنشيط الشراكة الأوروبية مع المغرب الكبير‮".
ربط كثيرون بين الزيارة التي‮ ‬قام بها الرئيس الفرنسي، ماكرون،‮ ‬إلى الجزائر وخطوة تونس،‮ ‬في‮ ‬تزامنٍ مع بحث باريس عن أدوار فردية لها‮ ‬‬في‮ ‬المنطقة‮ المغاربية، وفي‮ ‬تزامن أيضا‮ مع الجفاء السائد بين باريس والرباط،‮ ‬ومحاولة عزل المغرب عن محيطه المغاربي‮، في‮ ‬ما‮ ‬يشبه رد الفعل على توسيع التحالف مع الولايات المتحدة‮، ‬بعد اعتراف الأخيرة بسيادة المغرب على صحرائه‮، ‬وهو ما رأت فيه باريس نوعا من الابتعاد عن‮ "‬الحلفاء التقليديين‮"،‮ ‬كما ذهبت إلى ذلك تحليلات ‬فرنسية‮ كثيرة. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

كل دعوات التهدئة ومد اليد والانتصار للمستقبل لم تجد آذانا صاغية

لقد استطاع المغرب معالجة أزمتين مع ألمانيا وإسبانيا في‮ ‬وقت واحد،‮ ‬وهو‮ ‬يواجه اليوم أزمة مزدوجة، قطباها تونس والجزائر، وهو مدرك أن هناك رهانات لجمع مغرب إسلامي‮ ‬عوض المغرب الكبير‮. وجاءت الدعوة في‮ ‬وقتٍ‮ ‬تعيش المنطقة على صفيح ساخن،‮ ‬مفتوح على كل التوقعات من جهة،‮ ‬وتسير كل دولة من الدول المذكورة فيه،‮ ‬حسب مدار سياسي‮ ‬وإقليمي‮ متشابك بالنسبة لكل واحدة منها،‮ ‬من جهة ثانية‮. ‬ومما زاد من هول التأثير ‬التقاط إسلامي‮ ‬آخر،‮ ‬من داخل الجزائر،‮ ‬رئيس حركة مجتمع السلم‮ (‬حمس‮)‬،‮ ‬عبد الرزاق مقري،‮ ‬هذا النداء،‮ ‬فدعا إلى التنفيذ الفوري،‮ ‬أو على الأقل الانحياز السريع لأطروحة المغرب الثلاثي،‮ ‬لعزل المغرب،‮ ‬ودفعه بعيدا عن المغرب الكبير،‮ ‬بدعوى استئناف العلاقات مع إسرائيل‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن مظاهر التأزيم المستمر أن كل دعوات التهدئة ومد اليد والانتصار للمستقبل لم تجد آذانا صاغية‮. وقد‮ ‬يعطي‮ ‬الانحياز التونسي‮ ‬أكبر مساحة انزياح لكي‮ ‬يسير‮ هذا المشروع نحو التفعيل، ولو بهواجس إقليمية مؤقتة‮. ‬لا‮ ‬يمكن أن تمر‮ ‬بدون أثر عميق في‮ ‬نفسية الشعوب‮ ‬التي‮ ‬ما زالت تبحث عن الديمقراطية لكي‮ ‬تسير نحو الوحدة،‮ ‬كما تم في‮ ‬أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.