المعارضة السورية ودفن الميت
تجاوزت الثورة السورية عشر سنوات من عمرها، صنع خلالها الشعب السوري ملحمةً في التضحية من أجل الحرية والكرامة، حازت على تعاطف أصحاب الضمائر الحية في العالم واحترامهم، إلا أن فئةً لا يُستهان بها من السياسيين الذين تصدّروا الهيئات التمثيلية للثورة أساءت بتصرّفاتها ومواقفها، بدلا من أن تشكّل المثال وخط الدفاع الأول. وكلما تقدّم بنا الوقت، ساءت الأحوال أكثر، وزاد عدد الإساءات والمسيئين، كأننا أمام مرضٍ خطيرٍ يستفحل بلا علاج، حتى أوشك على تسميم الجسد كله. ومن حين إلى آخر، تطالعنا حادثةٌ صارخة، كي تذكّرنا بأن قاع الانهيار لا يزال عميقا، ومن ذلك المشادّة التي انتشرت أخبارها بشكل واسع في مجالس إسطنبول، وعلى وسائل التواصل وبعض المواقع الإلكترونية، والتي حصلت بين رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية نصر الحريري، ورئيس الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف عبد الرحمن مصطفى. وحسب ما نقل شهود، فإنهما تجاوزا حدود الاشتباك الكلامي الحاد الذي طبع اللقاءات بينهما في الآونة الأخيرة إلى الشتائم النابية وتسديد الضربات، وجرى ذلك خلال مراسم عزاء بزميل لهم هو ممثل محافظة درعا في الائتلاف محمد قداح، في وقتٍ تشهد فيه هذه المحافظة حصارا كبيرا من النظام وروسيا وإيران.
وصف الحريري خلافه مع مصطفى بأنه خلاف عمل ومؤسساتي، ولم يبتعد مصطفى عن ذلك عندما لخّص الأمر بأن الحريري يريد، من موقعه في رئاسة "الائتلاف"، مصادرة صلاحيات المؤسسات، ومنها الحكومة المؤقتة. وقد يكون هذا هو حجم الخلاف فعلا، أو ربما هو أكبر أو أقل، ولكن طبيعة المرحلة جعلت منه قضية يتداولها السوريون بمرارة في مجالسهم وعلى وسائل التواصل ووسائل الإعلام، مثالا صارخا على ما آل إليه حال مؤسسات الثورة السورية وهيئاتها في مرحلة من التراجع والإحباط والخسارة على جميع المستويات. وكما هو معروف، الخسارة مرّة، وخسارة السوريين باتت مضاعفة، لأن قسطا كبيرا منها سببُه بعض السوريين الذين تصدّروا تمثيل هيئات الثورة منذ عام 2011. وبالتالي، ليست المناوشات بين الحريري ومصطفى جديدة، وحصلت في السابق مع قياداتٍ أخرى بطرقٍ مختلفة، منها بالحوارات العضلية، وعلى صفحات الصحف، وعن طريق البيانات الاتهامية والتخوين، ولم يسلم منها أحد، بل ذاق كأسها المرّة معظم الذين عملوا في الشأن العام. ومؤسفٌ أن ما يحصل من ارتكابات كبيرة بحق الثورة والشعب يمرّ من دون محاسبة أو مراجعة، بل يكون العلاج، في أحوال كثيرة، بتدوير الشخصيات وإحداث مناقلات في المناصب، كما حصل عدة مرات بين الحريري وأنس العبدة، من دون أن يسجّلا أي إنجازٍ يشفع لهما.
وعلينا أن نعترف بأن نشر الغسيل السوري تجاوز كل الحدود، وأن حروب المعارضات تعدّت كل حروب المعارضات في واقعنا العربي الذي عرف هذه الظاهرة بوجهيها، الصحي والمرضي. وكثيرا ما اختلف أبناء القضية الواحدة إلى حد إعلان الحرب، إلا أن الوضع السوري فاق الجميع في الرداءة، ولن يتطوّع أحد من أجل إنقاذ المعارضة السورية من هذا الوضع الكارثي الذي وصلت إليه. ولو كان طرفٌ ما يريد أن يساعدها لفعل ذلك منذ زمن بعيد، بل هناك مصلحة لأطراف دولية وإقليمية في تضخيم الوضع المزري الذي تعيشه، لأن ذلك يعفي العالم من القيام بواجبه الأخلاقي لمساعدة الشعب السوري على تجاوز المأساة التي يواجهها. وهناك من له مصلحة فعلية في وجود معارضة هزيلة تابعة منقسمة، ومن دون كفاءة وبلا احترام، كي تسهل مسألة امتهان الحق السوري. ومن هنا، على العقلاء من السوريين المسارعة إلى وضع حد لمهزلة المعارضة، والعمل سريعا على "إكرام الميت"، والتفكير بتشكيل مؤسساتٍ أكثر جدوى تليق بالثورة السورية.