المشخّصاتي والمثقّف
يلعب الممثل دوراً مهماً في إنجاز أي عمل مسرحي أو تلفزيوني أو سينمائي، ولكنه ليس الدور الرئيس، فالممثل يخضع لتعليمات مخرج العمل، ومهما كانت موهبته مرتفعة المستوى، ينعكس فشل المخرج في إنجاح العمل حتماً على أداء الممثل، فيفشل هو بالتالي في تقديم دوره، مهما بذل من جهد واستثمر في الأداء. إذاً، ليس الممثل العنصر الأهم في العمل رغم أهميته. ولطالما نجح مخرجون مبدعون بأن يجعلوا أفشل الممثلين والممثلات يؤدّون أدواراً ناجحة، وبل مميّزة.
في المقابل، وفي الذائقة العربية، يظل الممثل، ذكراً كان أم أنثى، يحصل على اهتمام ومحبّة المتابعين الذين يربطون به نجاح العمل أو فشله. وبالأهمية التي يمنحها الجمهور للممثلين وللممثلات، فأصحاب السلطة، مهما كانت، يتقرّبون من الممثلين، وليس من المخرجين. ومن باب أوْلى، فإن استخفاف المتابعين، كما أصحاب السلطة والنفوذ، بالمخرجين، يمكن أن يمتدّ أيضاً، وخصوصاً، إلى كتّاب العمل، مهما علا شأنهم. ولذلك نرى في أثناء عرض عملٍ أو بعده، أن التعليقات في أغلبها، وخصوصاً من غير المتخصّصين، تتعلّق بالممثلين وبالممثلات. وكم من المخرجين المبدعين والكتاب المتميّزين مرّوا مرور الكرام في ذاكرة المتلقين، وجرى تهميشهم واعتبارهم مجرّد منفذين. ويجدر التنويه بأن امتهان الإخراج والكتابة لمن هبّ ودبّ في مرحلة الفضائيات والمنصّات المتطلبة، صار سبباً رئيساً في إضعاف أهمية (ووزن) هاتين المهنتين اللتين تتطلبان علماً وموهبة وإبداعاً.
دريد لحّام، المهرّج المعروف مثلاً، فشل في تقديم أي عمل ذي قيمة فنية يجاري مسرحياته التي كتبها له محمد الماغوط. وتتعدّد الأمثلة ليس فقط عربياً، بل وعالمياً. والفارق هو اعتراف الممثلين والممثلات، كما الإعلام المتخصّص والعام، عالمياً، بالدور المفتاحي للمخرج في نجاح أي عملٍ، مع الاهتمام بنسبة كبرى أيضاً بكاتب العمل، كذلك من يضع له السيناريو والحوار. أما في المنطقة العربية، يعتبر الممثل ويُعتقد أنه العامل الوحيد الذي أنجح العمل، ولا يؤتى على ذكر النصّ والإخراج إلا فيما ندر، وخصوصاً عند فشل العمل. ويندُر أن يكون الممثل قادراً على الرفع من قيمة دوره، كما حصل في حالتي مكسيم خليل وعبد الحكيم قطيفان في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" الذي كان إخراجه بعيداً عن التميّز رغم قوّة النص.
مال أصحاب السلطة السياسية والأمنية والمالية لتقريب الممثّلين والممثّلات
وفي زمن الاستبداد المتهالك ثقافياً، مال أصحاب السلطة السياسية والأمنية والمالية لتقريب الممثلين والممثلات من بلاطهم، لأنهم وحدهم من يظهرون على شاشات المُتلقي، وبالتالي، هم عناصر ترويج له في أرقى الاعتبارات وعياً، وهم مشهورون، والتقرّب منهم رفعة، في أدنى الاعتبارات تقديراً. وتزخر المجلات الفنية، وحتى المجلات السياسية، بلقاءاتٍ موسّعة مع ممثلين وممثلاتٍ مهما كانت درجة ثقافتهم متدنية، ومهما كانت أُميّتهم صارخة. يكفي أنهم مشهورون، وبأنهم أجروا عمليات تجميلٍ تجعل من صورهم موضوعاً جاذباً للقرّاء، وبالتالي عامل ترويج للمطبوعة. ونادراً ما نقرأ حواراً مع مخرج أو كاتب إلا من رحم ربي، وفي المطبوعات المتخصصة.
في زمن القائد الأب، ورغم التصحّر الثقافي الممنهج والتأسيس المنهجي لنظرية تعتمد أن تعزيز الاستبداد بالشعب هو أقصر طريقٍ إلى تأمين ديمومة الحكم للفرد ولسلالته، إلا أن العوامل التاريخية والسياسية والشخصية التي أحاطت بالمنظومة الحاكمة دفعت القيادة الفردية المتمثلة برئيس الجمهورية إلى الاقتراب الحذر من مثقفين بعينهم، وتقريبهم من البلاط بشكل مزاجي، وسرعان ما ينتقل صاحبه من الرضا إلى الغضب لمجرّد سماعه آرائهم التي لا تتوافق مع تصوّره لماضي البلاد ومن عليها، وحاضرها ومستقبلها، كونه المالك الأبدي لها. وبالتالي، ينعكس هذا المزاج على مصائر مثقّفي البلاط أو زائري هذا البلاط العارضين والمعارضين الذين كان من بينهم قامات فكرية وعلمية، لا غبار على سعة ثقافتها، وعمق معارفها، ونجاعة تحليلاتها.
من المحزن أن نلاحظ تحوّل بعض من تميّز إيجابياً من "النجوم" لمجاراة الوضع السائد
مع انتقال السلطة توريثاً إلى القائد الابن، تغيّرت المعادلة، وصار من المتكرّر والغالب أن يُقرّب منه "مثقفين" بعيدين جد البعد عن الثقافة (إلا في تعريفات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد في التقييم على الترندات) من ممثلات، وممثلين، ومطربات، ومطربين. ومنذ ذاك الحين، صار لزاماً على الإعلام المحلي أن يعتبرهم نجوماً للثقافة وللفكر. وبالتالي، فهو حتماً سيلجأ إليهم لاستنباط عصائر أدمغتهم بالتعليق فيما يتعلّق بأمور السياسة والمجتمع والثقافة والفكر، وحتى لربما اعتبرهم محللين استراتيجيين قادرين على استنباط أنجح السبل لمعالجة الأزمات المناخية المتراكمة.
لا ينفي ما سبق أن هناك استثناءاتٍ عديدة للقاعدة المطروحة، بحيث يتميّز عدد ممن لا يمتهنون الثقافة كإنتاج فكري ومعرفي، ثقافياً ومعرفياً. وحيث يجتهد بعضهم من هذه الفئات على ذواتهم قراءة وتثقيفاً فيتمكّنون من أدوات التحليل ومفردات التفكير. وغالباً يتواضع الإنسان مع ارتفاع معدّل ثقافته واطلاعه. أما العكس، فهو علامة مسجلة لأصحاب الثقافة - لايت، والتي لا تغني ولا تسمن حتى العقول البدائية. ومن المحزن، في هذا السياق، أن نلاحظ تحوّل بعض من تميّز إيجابياً في هذا الجانب من "النجوم" لمجاراة الوضع السائد، والانتقال إلى تسخيف الذات للحصول على مواقع متقدّمة شعبياً وسلطوياً.