المرأة الأفغانية بين نفاق الغرب وحكم طالبان
عشية الحرب على أفغانستان، عجّت وسائل الإعلام الأميركية بقصص ومقالات عن وضع معاناة المرأة في أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، كان أغلبها صحيحاً، ولكن تم توظيفها بشكل فاقع، في حينه وسنوات بعد بدء الاحتلال الأميركي لهذا البلد الآسيوي، لإضفاء غطاء أخلاقي لحملات قصف ومجازر أتت من السماء والأرض على شعبٍ يئن من ويلات حروبٍ مستمرّة. ولكن كتابا بعينه حقق شهرة واسعة، وأصبح مانيفستو لنسويات ومسؤولين وصحافيين غربيين من مؤيدي الحرب. قدّم "ما وراء النقاب" شهادات عن اضطهاد المرأة في فترة حكم "طالبان" بين 1996 - 2000. ولم يكن الحدث غريباً إلا في أن مؤلفته، شيريل بيرنارد، هي زوجة زلماي خليل زاد، الذي كان وقتها حليفا للمحافظين الجدد، أشد دعاة احتلال أفغانستان. ثم أصبح المبعوث الأميركي لمفاوضات الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم لحركة طالبان. لم تنبس الكاتبة والروائية، شيريل بيرنارد، ببنت شفة عن جرائم القصف والقتل بكل أشكال الترسانة العسكرية الأميركية، خصوصا طائرات الدرونز (من دون طيار)، والتي لم تفرّق بين رجل وامرأة وطفل، لأن مهمة الباحثة في معهد راند انتهت بإنتاج أسطورة الجيش الأميركي المنقذ للمرأة الأفغانية من عنف "طالبان"، وكأن القتل بآلات متطوّرة تكنولوجياً يجعل الحرب مهمة حضارية.
تُساق هذه الحكاية هنا لأنها تمثل قسوة وضع المرأة الأفغانية الواقعة بين وحشية الاستعمار الذي دمر بلادها وحياتها بحروبه وخوفٍ محقّ من بطش حركة طالبان التي نشأت نتيجة استراتيجية أميركية لاستعمال رؤية متطرّفة للإسلام السياسي، في مواجهة الحكم السوفييتي من عقيدة استندت إلى الوهابية، لتنشئ جيلا مشوه التفكير عن الإسلام والجهاد، ووقعوا تحت سطوة أمراء حرب من العشائر المتنفذة في أنحاء افغانستان، ثم جاءت "طالبان" من رحم مخيمات اللجوء، وأزاحوا حكم "المجاهدين" الذين انشغلوا بحروب النفوذ المدمرة. تم تلقين الطالبان، أي طلاب المدارس الدينية، تحت إشراف المخابرات الباكستانية، دروساً جمعت بين معتقداتٍ متطرّفة عن صورة المجتمع والمرأة، فكان حكمهم فجّا وقاسيا، فإضافة إلى تعليمهم العصبوي الضيق، وجدوا أنفسهم أصحاب سلطة تفعل ما تشاء وما ترغب وفقا لأهوائها.
لم تضطهد حقبة "طالبان" الأولى المرأة الأفغانية فحسب، بل حاولت تحويل المجتمع إلى صحراء قاحلة من العلم والفن والفكر، لكن إنكارهم أي حقوق للمرأة، ونظرتهم إلى المرأة مذنبة إلى أن تثبت براءتها من الإثم، أدّيا إلى جرائم بشعة وإغلاق المدارس ومنعها من التعليم والعمل، وكأن عليها أن تختفي تماما، أي أن كل الآفات المجتمعية التي كانت في أفغانستان، ومثلها ما هو موجود في بلادنا، أصبحت قوانين أخلاقية غير مكتوبة ومسلما بها، تُنفذ من دون مساءلة أو رقيب. ولا يمكن تفسير المسألة بطريقة فهم "طالبان" الدين، وضيق أفقهم فحسب، لكن التاريخ يبرهن أن أي مجموعة مسلحة تدخل وتحكم منطقة للسيطرة عليها، سواء كانت باسم الدين أو عقيدة تضع نفسها وصية على أخلاق الناس وحياتهم، تجد في المرأة الهدف الأضعف لاستبدادها، لكن "طالبان" رأت في اضطهاد المرأة وإخفائها الطريق الأقصر لفرض فضيلة متَخَيلة.
خوف المرأة الأفغانية حقيقي، ولا يمكن التقليل منه أو الاستهانة به كما يفعل كثيرون فرحون بانتصار "طالبان" على الآلة العسكرية الأميركية
هنا يجب ألا ننسى الموروث الاجتماعي والعشائري الذي جعل من اضطهاد المرأة عملية مركّبة ومقبولة، إذ، في كل عقود الحرب وخلال العشرين عاما الماضية، وتحت أعين المحتلين الأميركيين، لم تسلم المرأة من الاستغلال والاضطهاد من "طالبان" والعشائر، ومن جرائم الجيش الأميركي، لكن جريمة "طالبان" الكبرى في منع الفتيات والنساء من التعليم والعمل سلط الأضواء عليهن، فأفغانستان لم تكن تعيش في العصر الحجري. ومنذ بدء التعليم النظامي الذي أصبح إلزاميا في مطلع القرن العشرين، كانت الفتيات منخرطاتٍ في المدارس وفي جامعة كابول، والسفر إلى الخارج للتعليم.
صحيح أن انتهاء عهد "طالبان" فتح الباب مجدّدا للمرأة للتعليم والعمل والانخراط في العمل السياسي وتولّي المناصب. وهذا في جزء كبير منه نتيجة نضال النساء الأفغانيات أنفسهن، لكن الوضع في أفغانستان كان يشبه أوضاعا في بلادٍ كثيرة، بحيث اعتمد كثيرا على المنظمات غير الحكومية المموّلة غربيا، ولن تصل هذه المكاسب إلى أنحاء في أفغانستان، مغيبة وراء الجبال، ومنهكة من استمرار المعارك الغربية، واستغلال الأمنية منها السكان، والأهم لا تنمية حقيقية تحت الاحتلال. أي أن معظم العوائد والإيرادات لم تذهب إلى تنمية أفغانستان، بل إلى المنظمات العالمية والشركات وصناعة الأسلحة الأميركية والمتعاقدين الأمنيين وجيوب المسؤولين الفاسدين، وحتى "الطالبان"، وتم إهمال فادح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأماكن النائية، ناهيك عن ترك الناس دون أمن وأمان، فكابول، على الرغم من كل مشكلاتها، ليست أفغانستان.
ناشد المتحدّث باسم "طالبان" دول النفاق الغربي بعدم تفريغ أفغانستان من الكفاءات، وهو قول محق، لكن المطلوب أيضا من الحركة عدم ترويع النساء والكفاءات
هناك حاجة إلى بناء دولة في أفغانستان، إذا كانت حركة طالبان التي تظهر تغييرا براغماتيا تسعى فيه إلى قبول العالم بها، قادرة على إفساح المجال للمشاركة الشعبية والسياسية، لكن المحكّ الرئيسي هو الموقف من المرأة. وما يهمنا هنا أن خوف المرأة الأفغانية حقيقي، ولا يمكن التقليل منه أو الاستهانة به كما يفعل كثيرون فرحون بانتصار "طالبان" على الآلة العسكرية الأميركية. .. وحقوق المرأة في أفغانستان ليست قضية ثانوية تُداس باسم التحرّر، فأي تحرير هذا الذي يخيف المرأة الأفغانية، وهو خوف محقّ ومبرّر، فتصريحات المتحدثين باسم "طالبان" عن الحفاظ على حقوق المرأة بحاجة إلى توضيح، وكذلك الكلام عن حقها في العمل والدراسة. والسؤال هنا: إلى أي مدى تغيرت حركة طالبان، ليس قيادتها فحسب، بل الأهم قاعدتها؟ التحسن الواضح في التعامل مع الإعلام لا يكفي، فالعالم القاسي مستعدٌّ للقبول بأي نظام في أفغانستان، إذا حُفظت مصالحه الاقتصادية والأمنية فيها.
لا يمكن رهن حقوق المرأة في أفغانستان وغيرها بتصريحات المسؤولين الغربيين، فهي ورقة ضغط يلعبها الغرب بجدارة. قد يضغط أحيانا حتى يحافظ على غطاء أخلاقي لاستغلال أفغانستان بكنوز أرضها من معادن وأحجار نادرة ومادة الليثيوم التي تتهافت عليها كل الدول. لذا ما يريده الغرب والقوى الكبرى، مثل الصين، هو تشكيل حكومة يرأسها الطالبان، تحافظ على الأمن حتى تزدهر صناعات التعدين ويتراكم رأس المال. وهذا يتطلب أيضا دمج المرأة على كل المستويات في القوة العاملة، والصين كانت واضحةً في مطالبتها التزام "طالبان" بحق المرأة في العمل. لذا هناك ضغوط على الحركة لإثبات قدرتها في الحكم للعالم. والتحدّي الأول أمامها الإثبات للشعب الأفغاني، والمرأة منه خصوصا، أنها قادرة على احترام حقوق المواطنين وإنسانيتهم، ليس في العمل والتعليم فحسب، بل أيضا في كل شأن يتطلب تحرّر "طالبان" من نظرتها الضيقة، فتحريم الفن والإبداع هو قتل للروح الإنسانية، فلا خير في انتصار عسكري يدمّر النفس.
ناشد المتحدّث باسم "طالبان" دول النفاق الغربي بعدم تفريغ أفغانستان من الكفاءات، وهو قول محق، لكن المطلوب أيضا من الحركة عدم ترويع النساء والكفاءات، وإلا سيكون حكمها بقوة السلاح واستمرار سلب الأفغانيين من وطنهم وحياتهم.