المخاطر القانونية في نشر الأخبار الكاذبة للصحافيين
الأخبار المضلّلة (Disinformation) والمفبركة (fake news) أو المزوّرة أو "الدعاية" (propaganda) هي أخبار مختلقة بسوء قصد، ولا تستند إلى أي حقيقة. أما الأخبار الخاطئة أو غير الدقيقة فهي أخبار "ليست صحيحة 100%"، ربما بسبب نقص المهنية وعدم التأكد من صحتها، لكن الكاتب كان يعتقد بصحتها لحظة النشر، ولو تبيّن فيما بعد عدم صحتها. وتاريخياً، ارتبطت كلمة propaganda بنشر الإيمان1، لكن فيما بعد كثر استخدامها في الحروب، وخصوصا في الحرب العالمية الثانية، عندما اكتسبت معنىً سلبياً، حيث ارتبطت بوزارة الدعاية النازية ووزيرها غوبلز. وحديثاً، ظهرت الشكوى من "الأخبار المفبركة" (fake news) في السنوات القليلة الماضية ظاهرة في عدد من الدول، منها الولايات المتحدة، مصر، فرنسا، الأردن وغيرها، ففي فرنسا هناك كلمة نظيرة للأخبار المفبركة، وهي "complotisme" كما أن هناك أيضًا ترجمات فرنسية جديدة تم سكّها من أجل "أخبار مزيفة"، بما في ذلك "infox" ، وهي مزيج من "المعلومات" و"intox" (معلومات سامّة). هناك عدة مصطلحات للأخبار الكاذبة حسب اليونسكو، والتي تتجنّب استخدام مصطلح fake news، لكنها تقسِّمها إلى ثلاثة أنواع2:
المعلومات المضللة: المحاولات المتعمّدة المخطط لها بعناية، لإرباك أشخاص، أو التلاعب بهم عبر تقديم معلومات كاذبة عنهم، بغرض المساس بسمعتهم ومصالحهم. المعلومات الخاطئة: المعلومات المضللة التي يتم إنشاؤها أو نشرها من دون وجود نوايا خبيثة. المعلومات المسيئة (أو الضارّة): معلومات حقيقية، لكن بغرض الإساءة لشخص أو جماعة أو منظمة أو دولة. (مثال قبيل الانتخابات).
تنصّ المواثيق الدولية والقوانين الوطنية في مختلف الدول على أهمية حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام في تزويد المواطنين بالمعلومات لمساعدتهم على اتخاذ القرارات وتوعيتهم بما يدور حولهم. فمثلا تنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير. حيث يشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء من دون تدخل، والبحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها من خلال أي وسائط، وبغض النظر عن الحدود.
أدّت ثورة تكنولوجيا المعلومات إلى فوائد جمّة للبشرية، لكنها أيضاً أتاحت وسيلة جديدة، عبر إساءة استخدامها لارتكاب جرائم بواسطتها
وفي ظل التطورات المتسارعة لتكنولوجيا المعلومات أصبح نشر الحقائق وإعادة نشرها بالسهولة نفسها لنشر الأخبار غير الدقيقة والزائفة. وتشكِّل شبكة الإنترنت أهم وسيلة عرفها التاريخ الإنساني في التماس المعلومات وتلقيها وبثها. وقد أدّت ثورة تكنولوجيا المعلومات إلى فوائد جمّة للبشرية، لكنها أيضاً أتاحت وسيلة جديدة، عبر إساءة استخدامها لارتكاب جرائم بواسطتها، كجرائم الاعتداء على الأموال وترويج الفحش أو المخدّرات أو المقامرة أو جرائم المضمون، كالتشهير والتحريض على العنف والكراهية. وإساءة استخدام قلةٍ هذه الوسيلة ومشتقاتها، كوسائل التواصل الاجتماعي، أحياناً، لا يجب أن تحجب النظر عن فوائدها العظيمة. ولمواجهة مضمون ما تنشره منصّات التواصل الاجتماعي، سنّت 138 دولة (منها 13 عربية) تشريعات لمواجهة الجرائم الإلكترونية. ولو طبقنا المعايير الدولية لحرية الرأي والتعبير على قوانين جرائم أنظمة المعلومات العربية، نجد أن أغلب أحكام هذه القوانين لا تتوافق مع القيود المشروعية، وتتعدّاها إلى إعاقة الحوار وكبح حرية التعبير.
وكانت الإمارات من أوائل الدول التي أصدرت قانوناً خاصاً بجرائم تقنية المعلومات، وذلك عام 2006، وعدّلته 2016 و2018، وتنصّ المادة 38 على تجريم "بالسجن والغرامة": كل من قدم إلى أي منظماتٍ أو مؤسّساتٍ أو هيئات أو أي كيانات أخرى معلومات غير صحيحة أو غير دقيقة أو مضلّلة، وكان من شأنها الإضرار بمصالح الدولة، أو الإساءة إلى سمعتها أو هيبتها أو مكانتها، وذلك باستخدام الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات". وفي الكويت، ينصّ القانون رقم 31 لسنة 1970 على أنه يعاقب بالحبس المؤقت الذي لا تقل مدّته عن ثلاث سنوات كل كويتي أو مستوطن في الكويت أذاع عمداً في الخارج أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة حول الأوضاع الداخلية للبلاد. وفي مصر، ينص قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180/2018 في المادة 19: "يحظر على الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني نشر أو بث أخبار كاذبة .. ويلتزم بأحكام الفقرة السابقة كل موقع إلكتروني شخصي أو مدوّنة شخصية أو حساب إلكتروني شخصي، يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف أو أكثر. ومع عدم الإخلال بالمسؤولية القانونية المترتبة على مخالفة أحكام هذه المادة، يجب على المجلس الأعلى اتخاذ الإجراء المناسب حيال المخالفة، وله في سبيل ذلك وقف أو حجب الموقع أو المدوّنة أو الحساب المشار إليه بقرار منه".
أضحى من الشائع جداً اتهام الصحافيين بنشر معلومات كاذبة كلما تعلق الأمر بالنقد أو التطرق لمواضيع حسّاسة من شأنها أن تزعج السلطات
وأضحى من الشائع جداً اتهام الصحافيين بنشر معلومات كاذبة كلما تعلق الأمر بالنقد أو التطرق لمواضيع حسّاسة من شأنها أن تزعج السلطات، إذ لا يمكن لمثل هذه الأساليب التي باتت منتشرة على نطاق واسع إلا أن تحكم على الصحافيين بالوقوع في فخ الرقابة الذاتية في أثناء تغطيتهم الأحداث، خوفاً من محاكمتهم أو زجّهم في السجون.
وفي سلطنة عُمان، ينص المرسوم السلطاني رقم 7/ 2018 على إصدار قانون الجزاء في المادة 115: يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد على ثلاث سنوات كل من: حرّض أو أذاع أو نشر عمدا في الداخل أو الخارج أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة أو بثّ دعايات مثيرة، وكان من شأن ذلك النيْل من هيبة الدولة أو إضعاف الثقة في أسواقها المالية أو مكانتها الاقتصادية والمالية. .. كما ينصّ قانون المطبوعات والنشر العُماني رقم 84/49 (بتعديلاته) الذي نشر في عدد الجريدة الرسمية رقم 289، الصادر في 2/6 /1984 في المادة 19: يحظر على البائعين المتجولين الترويج لبيع المطبوعات الصحفية عن طريق المناداة بأنباء كاذبة أو غير واردة في المطبوعة أو يخدش الأخلاق أو يتنافى مع الآداب العامة، أو يخالف النظام العام.
وفي الأردن، ينص قانون المطبوعات والنشر في المادة 38: يحظر نشر أي مما يلي:
د- ما يسيء لكرامة الأفراد وحرياتهم الشخصية أو ما يتضمّن معلومات أو إشاعات كاذبة بحقهم. وحسب المادة 46/هـ: يعاقب كل من يخالف أحكام الفقرة د من المادة 38 من هذا القانون، بغرامةٍ لا تقل عن خمسمائة دينار ولا تزيد على ألف دينار. أما المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية رقم 27 لسنة 2015 فتنص: يعاقب كل من قام قصدا بإرسال أو إعادة إرسال أو نشر بيانات أو معلومات عن طريق الشبكة المعلوماتية أو الموقع الإلكتروني أو أي نظام معلومات تنطوي على ذم أو قدح أو تحقير أي شخص بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائة دينار ولا تزيد على ألفي دينار. وتنص المادة 75/أ من قانون الاتصالات رقم 13 لسنة 1995: "كل من أقدم، بأي وسيلة من وسائل الاتصالات، على توجيه رسائل تهديد أو إهانة أو رسائل منافية للآداب أو نقل خبراً مختلقاً بقصد إثارة الفزع يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن 300 دينار ولا تزيد على 2000 دينار، أو بكلتا هاتين العقوبتين". ومع جائحة كوفيد 19، يعاقب أمر الدفاع (رقم 8 لسنة 2020) بالحبس حتى ثلاث سنوات أو غرامة ألفي دينار أو العقوبتين معا من نشر أو أعاد نشر أو تداول أي أخبار حول الوباء (كوفيد 19) من شأنها ترويع الناس أو إثارة الهلع بينهم عبر وسائل الإعلام أو الاتصال أو وسائل التواصل الاجتماعي.
الأنظمة العربية تستسهل تمرير قوانين عقابية على نشر الأخبار الكاذبة، بدلاً من اللجوء إلى الممارسات الفضلى بالتوعية والتربية الإعلامية
وكانت وسائل الإعلام في جمیع أنحاء العالم، في أثناء الجائحة مصدرا مهماً للمعلومات التي تصل إلى الناس، بما یسمح لجمھور أوسع بفھم خطورة هذا الوباء. ومع ذلك، ظهرت أحيانا في مختلف الدول معلومات مختلقة وغير دقيقة عنه.
ويلاحظ أن الأنظمة العربية تستسهل تمرير قوانين عقابية على نشر الأخبار الكاذبة، بدلاً من اللجوء إلى الممارسات الفضلى بالتوعية والتربية الإعلامية لمواجهة الأخبار الكاذبة أو المضللة، وتشجيع الصحافيين والجمعيات الأهلية على نشر ثقافة التحقق، مع أننا، نحن العرب، أولى الناس بإعادة الإعتبار لعلم التحقق، فهو علم عربي خالص، اخترعه العقل العربي، ويتمثل في موضوعين رئيسيين: رواية الحديث النبوي الشريف، ونشأ علم الجرح والتعديل والبحث في معرفة أحوال الرواة من حيث قبول رواياتهم أو ردّها في رواية الحديث النبوي. رواية الشعر الجاهلي التي خضعت أيضاً للتدقيق والتحقق، ونشأت طبقة تَحتَرفُ رواية الشعر وتنقيه من الانتحال.
ومنذ عام 2016 حدثت طفرة في منظمات التحقق. وكان مركز أنينبيرغ للسياسة العامة في جامعة بنسلفانيا، قد أطلق في عام 2003 موقع Factcheck.org. وفي ضوء تصاعد اتشار الأخبار المضللة أخذت دول عديدة تنشئ منصّات للتحقق من المعلومات، ففي الأردن مثلاً جرى تأسيس منصّة "فتبينوا" (https://fatabyyano.net/)، وهي منصّة عربية مستقلة انطلقت عام 2014، متخصّصة في مجال التحقق من المعلومات وتنقية المحتوى العربي على الإنترنت من الإشاعة والأخبار الكاذبة والخرافات. كما أسست الحكومة الأردنية منصّة "حقك تعرف" (https://haggak.jo/website) ومرصد أكيد (https://akeed.jo/ar).
ومن المنصات المبكّرة منصة "سند" التابعة لفضائية الجزيرة. ففي عام 2015، بدأت الشبكة التفكير في تأسيس قسم للتحقق من الأخبار، حينما بدأ التحالف العربي شنّ ضرباتٍ على بعض المدن اليمنية، وبدأت الصور تتدفق عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى شاشات التلفزيون. ونتيجة لذلك، نمت الحاجة إلى التحقق من صحة الفيديوهات والصور والأخبار التي تنتشر عبر المنصات3.
كثيرون ممن يمتلكون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي لا يتأكدون أو يتحققون أو يفحصون مدى مصداقية ما يتلقونه من قصص أو فعل ذلك عند إعادة نشرها
وجاءت جائحة كوفيد 19 لتعطي دفعة قوية لانتشار الأخبار المضللة حول هذا الوباء. وهناك منصّات للتحقق من المعلومات والتضليل الإعلامي حول جائحة كوفيد 19 باللغة الإنكليزية من أهمها معهد "بوينتر" الأميركي.
https://www.poynter.org/media-news/fact-checking/
https://www.poynter.org/ifcn-covid-19-misinformation/
وهناك جهود تبذلها عدد من الشركات الكبرى مثل "غوغل، فيسبوك وتويتر" لمواجهة انتشار الأخبار المفبركة، ومن ذلك أن WhatsApp خفضت إعادة إرسال الرسائل في المرة الواحدة من 20 إلى خمسة مشتركين أو مجموعات.
ومع أن الاتهام الأكبر يوجه إلى منصّات التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار المضللة، إلا أن هذه الأخبار قد تجد طريقها إلى الصحافة أيضاً، والخطر الذي يتهدّد الصحافة هو خلط العامة بينها وبين منصّات التواصل الاجتماعي. ولذلك من مصلحة الصحافة للبقاء بذل مزيد من الجهود لعمل صحافةٍ جيدةٍ ملتزمة بأخلاقيات المهنة والتقاط الخبر المضلّل قبل نشره. ومن واجب الصحافة أيضاً الكشف بشكل استباقي عن حالاتٍ وأشكالٍ جديدةٍ من التضليل وفضحها.
وكثيرون ممن يمتلكون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي لا يتأكدون أو يتحققون أو يفحصون مدى مصداقية ما يتلقونه من قصص أو فعل ذلك عند إعادة نشرها. وقد يكتفي بعضهم بذكر عبارة "كما وردتني من المصدر" أو "على ذمّة المصدر"، عند إعادة الإرسال على "واتساب" أو "ماسنجر". وإن كان يمكن تفهم نشر عامة الناس وإعادة نشرهم الأخبار المضللة وغير الدقيقة، إلا أن قيام الصحافيين والإعلاميين بذلك غير مقبول منهم، بصفتهم محترفين يعملون في مؤسسات إعلامية لها طرقها في التأكد من دقة ما تنشره.
وكان المقرّرون الخاصون لحرية التعبير في الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمفوضية الأفريقية، قد أصدروا بياناً عام 2017 حول حرية التعبير و"الأخبار المزيفة" والمعلومات الخاطئة والدعاية لعام 2017، أعربوا فيه عن القلق من أن المعلومات المضلّلة والبروباغندا يتم تصميمها وتنفيذها، في معظم الأحيان، بغرض تضليل العامة، وكذلك للتشويش على حق الجمهور في المعرفة وحق الأفراد التماس المعلومات والأفكار على مختلف أنواعها. وشدّد المقرّرون على أن بعض أشكال المعلومات المضللة والبروباغندا يمكن أن تلحق الضر بسمعة الأفراد وخصوصياتهم، أو يمكن أن تحرِّض على العنف أو التمييز أو المشاعر العدائية ضد مجموعاتٍ محدّدة في المجتمع، داعين وسائل الإعلام إلى تعزيز الدقة في الأخبار، من خلال أنظمة فعالة للتنظيم الذاتي. وهذه مهمة بالغة الأهمية لوسائل الإعلام، وتمثل بديلاً عن نهج الرقابة الحكومية لمحاربة الأخبار الزائفة. كما أنها قضية مهمة أيضاً لكليات الإعلام وطلابها، إلى جانب المدرّبين والمنظمات غير الحكومية، ومدققي الحقائق.
ـــــــــــــــ
الهوامش
1- In 1622 Pope Gregory XV created in Rome the Congregation for the Propagation of the Faith. https://www.britannica.com/topic/propaganda
2- https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000373212
3- انظر: ملاك خليل (2021). التقنية في مواجهة تفشي الأخبار الكاذبة. تمت زيارة الموقع بتاريخ 21 سبتمبر 2021
https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1532