المجلس الوطني الفلسطيني يُذكِّر بنفسِه

18 سبتمبر 2023

مقرّ رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله

+ الخط -

ليس مزحةً أن يُقال إن واحدةً من "فضائل" الزوبعة التي أثارها الكلام المفتعَل للرئيس محمود عبّاس، إن هتلر لم يقتُل يهودا لأنهم يهود، تذكير الجمهور الفلسطيني بأن ثمّة مجلسا اسمُه المجلس الوطني الفلسطيني. تحتاجُ وقتا كثيرا إذا أردتََ العثور على آخر مرّة أشهر فيها هذا المجلس موقفا، أو زاوَل فيها شيئا من وظائفه. كأنه يتذكَّر وجودَه عندما يُصدر، الأسبوع الماضي، بيانا، يردّ على بيان أكثر من مائة مثقفٍ وأكاديميٍّ وناشطٍ فلسطيني، معظمُهم في الولايات المتحدة وأوروبا، عبّروا فيه عن غضبهم من ذلك الكلام الذي قاله عبّاس في اجتماع للجنة المركزية لحركة فتح (ما علاقة هتلر باجتماع كهذا؟ ماذا بحثوا وتداولوا؟). اعتبرهم المجلس الذي يعدّ برلمان الفلسطينيين المكلّف بمراقبة أداء الرئيس وقيادات منظمة التحرير "مجموعةً تدّعي أنها من المثقفين، والكتاب، والأكاديميين الفلسطينيين ممن يعيشون في أوروبا وأميركا". والعجيب في هذه اللغة أن من يلزمهم الاعترافُ بصفتهم أعضاء في هذا المجلس هؤلاء الأشبه بأشباحٍ شائخة، اختيرت بكيفيّاتٍ عتيقةٍ منذ أربعة عقود وأكثر، ولا يدري أحدٌ ماذا يصنعون، وأي أهليةٍ لهم حتى يتوهّموا أنفسهم أصحاب سلطةٍ تُحدّد من هم المثقفون ومن يدّعون أنهم مثقّفون. ولأن فتح ملفّ المجلس الوطني وتآكل شرعيته يتطلّبان حديثا مسترسلا، يُكْتفى هنا بتأكيد أن نديم روحانا ورشيد الخالدي وروز ماري صايغ وكثيرين من زملائهم الموقّعين على بيان التنديد ببؤس عبّاس وكلامه هم أصحاب الجدارة في اختبار كفاءة أولئك الذين يمكثُون أعضاء في المجلس الشائخ، وينسبون لأنفسهم حقّا في أن يتجرّأوا على تلك الصفوة من الخبرات الفلسطينية في إنتاج المعرفة عن فلسطين وشعبها وتاريخها، وفي تعريف العالم بقضيّتها. 
كان في وُسع أيّ من الذين ترميهم هذه السطور بالانتقاد المستحقّ أن يُشهروا آراءهم الفردية في الذي سمّوه "بيان العار"، ويقولوا فيه ما يروْنَها مواضع زلل وشطَط وخطأ، ولكن من دون لغة التجرّؤ والتعالي، وبلا نبرة التخوين والاتهام. لقد اعتبرَ أن تلك المجموعة "التي تدّعي أنها من المثقفين" (!) تتطاول "بانحدارٍ أخلاقيّ لتتبنّى أكاذيب الإعلام والرواية الإسرائيلية المصطنعة ضد رئيس دولة فلسطين، محمود عبّاس، للنيْل من رأس الشرعية الفلسطينية". ولولا أن من طبائع صاحب هذه المقالة أن يتعفّف عن استخدام مثل اللغة التي يقيم عليها كاتبو هذا البيان في المجلس الوطني الفلسطيني، لاستخدم نعتهم لرمي بيانِهم به، "بيان العار"، سيما وأنه يستحقّ شيئا من هذا، طالما أن الذين صاغوه أجازوا لأنفسهم أن يسمّوا أولئك الأساتذة والمثقفين والنشطين والأساتذة الجامعيين الفلسطينيين "الفئة الضالّة المأجورة المنحازة للجانب الخطأ". ومن عجيب العجائب أن يعلّم المتعالِمون على أهل العلم، عندما يكتبون، في بيانهم الرديء، إنه كان الأجدر بهذه الفئة "إدانة الجرائم التي تُرتكب بحقّ شعبنا ومقدّساته وأسراه داخل سجون الاحتلال وعمليات التهويد والاستيلاء على الأرض الفلسطينية". والراجح أن المنقطعين لمديح عبّاس والتعامي عن ركاكاتِه لا يعرفون شيئا عن جهودٍ علميةٍ مقدّرة أنجزها كثيرون ممن يوصونهم بوصيتِهم هذه في تأكيد الرواية الفلسطينية وتظهير بطلان الأزعومة الإسرائيلية، وفي تظهير طبيعة الاحتلال الاستيطاني (كما وصفه البيانُ المهاجَم) في مناسباتٍ بلا عدد، وفي منابر عديدة في الغرب، وبين أوساط أكاديمية وإعلامية ومدنيّة في الولايات المتحدة وأوروبا.
يحقّ لأيٍّ كان أن يرى في بيان المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين ما يراه من مؤاخذاتٍ وانتقاداتٍ (ومزالق)، بل ربما وفّر فرصةً حسنة لإشاعة نقاشٍ أو جدلٍ فلسطينيٍّ ثقافيٍّ فكري سياسي إعلامي بشأن ما يأتي عليه، غير أن الذين في وُسعهم أن يبادروا إلى أمرٍ كهذا يتصفون، بداهةً، بأخلاق الجدل وشمائل أهل المعرفة والعلم، وليس كما الذين نشطوا الأسبوع الماضي في إطلاق تصريحاتٍ وإصدار بياناتٍ، في حركة فتح والجبهتين الديمقراطية والشعبية (وغيرِهما)، وفي صدارتهم المجلس الوطني الفلسطيني، راحت تخلط الحقيقيّ بالزائف، وتدّعي احتكار النزاهة الوطنية والروح النضالية ضد الفاشيّة الإسرائيلية، وذهبت تُنزّه محمود عبّاس عن أي خطأ أو نقيصة، وهو الذي صار يعتاد توريط الشعب الفلسطيني بثرثراتِه عن هتلر واليهود والهولوكوست، كما صنَع في برلين والأمم المتحدة وغيرهما، وها هو يحاضر في الموضوعة هذه بين قياداتٍ فتحاوية، كأنه المؤرّخ النحرير العارف، فيما يلزمُه أن يحترس في ما يقول، فلُه حيثيّتُه رئيسا لدولة فلسطين أمام العالم، ولو من دون قناعة القاعدة العريضة من الفلسطينيين به.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.