المثقّفون العرب وغزّة
لم تُحرّك الحرب الإسرائيلية على غزّة المثقّفين العرب. وهذه ليست المرّة الأولى التي ينأى فيها هؤلاء عن حدث مصيري في المنطقة العربية، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، فقد سبق لهم أن تعاملوا مع قضايا أخرى مصيرية بسلبيةٍ واستخفاف، لا يليقان بالدور التاريخي للمثقّف، وبما لا يرقى إلى ما نهضت به النخب التي سبقتهم منذ بداية القرن العشرين، وكانت صاحبة دور مهم على صعيد التأسيس الفكري الجديد للأمة، والتصدّي للمهمّات الكبرى مثل مواجهة الاستعمار والاستقلال والوحدة العربية والنكبة واحتلال فلسطين، الذي شكّل المحور الأساسي لحركة الثقافة والسياسة في العالم العربي، من المحيط إلى الخليج.
وحينما يأتي حديث مسؤولية المثقّفين العرب، فإن المطلوب منهم يتجاوز إصدار عرائض تضامن مع أهل غزّة، أو كتابة جملة على وسائل التواصل، إلى الحضور عبر المنابر المحلية والخارجية، وهذا متاحٌ أمام أصحاب قامات معروفة من كتّاب وفنانين وصلوا إلى العالمية، وصوتهم مسموع في الغرب. وفي وُسع بعض هؤلاء القيام بذلك لو أرادوا، ويمكن لعدد منهم أن يخاطب الرأي العام الغربي، ببساطة، عبر الصحف في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، مثل نيويورك تايمز، الغارديان، واللوموند. إلا أنهم يعتكفون، للأسف، ويكتفون بالفرجة على ما يحصل، مثل قطاعاتٍ أخرى من الفنانين والصحافيين، وحتى رجال الأعمال، أصحاب الاستثمارات المالية في أوروبا والولايات المتحدة.
ومن المؤسف أن بعض هؤلاء، بدلا من أن يحرّك الحدث ضميره باتجاه العدالة والحقوق، اختار الوقوف إلى جانب الاحتلال، فانبرى يدافع عن إسرائيل، ويدين الهجمات التي قامت بها الفصائل الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي في مستوطنات غلاف غزّة يوم 7 أكتوبر، ولم يتوقّف أمام تاريخ طويل من الاحتلال حوّل هذه المساحة الصغيرة إلى أكبر سجن في العالم، يتحكّم به من جهات البرّ والبحر والجو، ويقنّن الماء والغذاء والكهرباء. وعوضا أن يرى بعض هؤلاء المسألة على استقامتها، فإنه بقي عند القشور، وانخرط في تيار الذين تبنّوا الدعاية الإسرائيلية التي ثبت تهافتها، وفنّدتها وسائل الإعلام، من بينها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، التي كشفت عن دور الجيش الإسرائيلي في قتل مدنيين إسرائيليين أثناء الاشتباكات التي حصلت في المستوطنات صباح الهجوم.
ويجدر هنا التنويه بمواقف مثقّفين في أوروبا والولايات المتحدة، تحدّوا الترهيب الذي مارسته اللوبيات الصهيونية ووسائل الإعلام ومراكز التأثير والضغط في الصحافة والفن والتعليم الجامعي. ومنذ اليوم الأول للحرب على غزّة، خرج بعض هؤلاء بتصريحات ومواقف، ساهمت في تغيير اتجاه الرأي العام، مثلما حصل من حركة "فنانون من أجل فلسطين" في بريطانيا، التي وجّهت رسالة مفتوحة بعد أسبوع من الحرب، وقّعها قرابة خمسة آلاف كاتب وشاعر ومثقّف وممثّل وموسيقي وصانع أفلام بريطاني، اتّهموا فيها الحكومات بـ"مساعدة إسرائيل وتحريضها لارتكاب جرائم حرب في غزّة". ولم يتوقف هؤلاء عند هذه الرسالة، بل واصلوا التضامن بوسائل مختلفة، منها المشاركة في المظاهرات الكبيرة، الأمر الذي حفّز قطاعات واسعة من الشباب من جنسياتٍ وخلفياتٍ مختلفةٍ للانخراط في دعم القضة الفلسطينية. وقد فقد بعض هؤلاء وظائفهم أو تمويل أفلامهم وإلغاء معارضهم الفنية، وامتدّت حالة الاشتباك إلى بلدان أخرى مثل فرنسا، التي يعد فيها صوت اللوبيات المؤيدة لإسرائيل عاليا، وصدرت عدة عرائض ذات قيمة كبيرة، منها التي تدور حاليا، ووقعها ما يتجاوز ألف مثقّف منهم الحائزان نوبل للأدب، لوكليزيو وآني إرنو، وكتاب آخرون وأكاديميون، وهناك سينمائيون، منهم الممثلة البلجيكية، فيرجيني إيفيرا، ولاعب كرة القدم السابق إريك كانتونا. وأبرز ما جاء في الرسالة وصف إسرائيل بـ "دولة الفصل العنصري".