المؤبد لأنور رسلان وغياب الآخر في سورية
تنفّس أهالي الضحايا في سورية أخيراً. لقد أَصدرت محكمة كوبلنز الألمانية حكم السجن المؤبد على ضابط استخبارات سوري سابق رفيع المستوى، أنور رسلان. دامت المحاكمة عدّة سنوات، وتعدّدت آراء المعارضين للنظام السوري بشأنها، وتركّزت على محاسبة شخص انشقّ عن النظام، سنيّ المذهب، وهذا سيسعد النظام ذاته، ويعطي درساً للموالين بألا ينشقوا. فيما رأى آخرون أن الرجل مجرم حرب، وعليه قضايا كثيرة، وانشقاقه لا يَجِبّ تلك المسائل، وهو لم يعلن انشقاقه من أصله، هَرِبَ فقط، ولم يضع نفسه لدى المحاكم الدولية، وسنّيّته لا تعفيه. انتصر الرأي الثاني عبر القضاء؛ فالأخير هو من أَنزل الحكم، واستبعد بعض الشهود وأبقى بعضهم. وباعتبار القضاء في ألمانيا من أفضل النظم القضائية العالمية، يصبح الرأي الثاني الأكثر جدارة وأهمية، ويُبنى عليه في محاكمات لاحقة.
لقد هَجَرَ سورية، وقد صارت لعبة إقليمية ودولية، شبّيحة ومجرمو حرب وقادة فصائل وقادة سياسيون فاسدون، وفئات كثيرة تستحق المحاكمة لما فعلته بالشعب السوري. المؤبّد هذا لم يكن ليصبح حكما لولا جهود كبيرة بذلها محامون تُرفع لهم القبّعات. ويمكن مقارنتهم مع محامين آخرين، لم يلاحقوا رفعت الأسد، وهو مجرم حرب كبير، طوال عقود في فرنسا. والأنكى أن القضاء الفرنسي سمح بهروبه ضمن عملية استخباراتية قذرة ومموّلة بالتأكيد، وتؤكد تقارير دور روسيا فيها، وهذا يسجّل فارقاً هاماً بين القضاءين، الفرنسي والألماني، وبين المحامين السوريين وغيرهم من المدافعين عن حقوق الضحايا، بينما لم يفعل رفاقهم المهجّرون السوريون من قبل شيئاً بخصوص رفعت وآخرين، كانوا يصولون ويجولون في تلك البلاد!
هناك مصالح دول كبرى تتعارض في سورية وتمنع الوصول إلى اتفاقٍ سياسي ينهي هذه المأساة المهزلة
المؤبد هذا أيدته منظمات حقوقية كثيرة، والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، ومحاكم عالمية، وهيئة قضائية كثيرة. إذاً، لم يعد أمراً هامشياً، أو بسيطاً. هو سابقة ويُبنى عليه. وقد بدأت محاكمة طبيب سوري، مسيحي، عليه قضايا ثابتة بتعذيب معتقلين مصابين في المستشفيات. ومحاكمته أمر جيد، وسيكون الحكم السابق مساعداً في سلاسة المحاكمة الجديدة، وهكذا يُمكن تبيّن أهمية ما جرى ورؤيتها.
تسخيف الأمر، وكذلك تعظيمه، ليسا محبذين؛ فهو مجرد بداية جيّدة، دونها ألف تعقيد وتعقيد، هناك مصالح دول كبرى تتعارض في سورية وتمنع الوصول إلى اتفاقٍ سياسي ينهي هذه المأساة المهزلة، والتي لم يعد لها من مبرّر منذ أعوام، وسبب استمراريتها ذلك التعارض في المصالح. المقصد هنا أن المحاكمات الجارية ستشكل عامل ضغطٍ قوّي لتطبيق العدالة الانتقالية والعادلة، وستقف بوجهها مصالح روسيا والصين وإيران خاصة؛ وسيعطّلون بالتأكيد مشاريع قضائية كثيرة من أجل نصرة حقوق الضحايا. الاستمرار في ملاحقة مجرمي الحرب، ومن كل الأطراف، رسالة قوية إلى المجتمع السوري، مفادها بأن القضية لا تتعلق بمذهب ذلك المجرم أو دينه أو طائفته، بل بتحقيق العدالة، وأن تلك المحاكمات ستسمح بتنظيف البلاد منهم، وستخيف المنفلتين الهمجيين هنا وهناك، والمستخفين بحقوق الناس وكراماتهم، ولا يتورّعون عن أذيتهم وقتلهم، وهذا يحصل لدى النظام وهيئة تحرير الشام، وفصائل مدعومة من تركيا، ولدى قوات سورية الديمقراطية (قسد).
المحاكمات الجارية ستشكل عامل ضغطٍ قوّي لتطبيق العدالة الانتقالية والعادلة
قلت، يجب ألا يتم تضخيم الأمر، ولكن تتفيهه، بحجة بعض المخالفات، أو الأخطاء التي قد يقع بها محامو الضحايا، كأن يؤتى بشاهدٍ كاذب، أو يضخّمون دورهم القانوني، أو سواه، فلا أراه سديداً أبداً؛ المحامون في النهاية مثلنا، يشعرون بالسعادة، يخطئون هنا وهناك، أمّا من يصوّب ما أُفسِد فهو القضاء. هنا الدرس الذي على السوريين أن يتواضعوا ويتعلموه؛ القضاء هو من يحكم، لا عامة الناس أو القانونيون حتى.
هل شعر قادة النظام السوري بالخوف بعد الحكم؟ بالتأكيد، ويجب أن يشعر قادة المعارضة والفصائل أيضاً بالخوف، والمحاكمات ستشملهم في مقتبل الأعوام أيضاً، وهذا يقتضي انخراط قطاعاتٍ واسعةٍ من الفاعلين في الصحافة والقانون والقضاء، والتنسيق فيما بينهم، من أجل إعداد الملفات. ما حصل للشعب السوري، والجميع يعرف المآسي، يطيح أية مرجعية، أصبح العالم يتأفف منها، ومعه كل الحق، ويقلّص مساحات تغطيتها؛ فالقضايا التي تخصّ الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة وهيئاته ولجانه لم تعد تستحق أية تغطية، أو تحليل، نظراً إلى الانحطاط الكامل الذي أصبحت عليه هذه القوى، وضرورة أن تُشطب.
الآخر في النقاش السوري الجاري ليس موجوداً. كلُّ طرفٍ يتهجّم على الآخر، ويعتبره مخطئاً جملة وتفصيلاً
خوف النظام لن يدفعه أبداً إلى البدء بخطواتٍ معينةٍ من أجل التصالح مع الشعب، وكذلك قادة المعارضة والفصائل و"قسد". سيتجاهل أصحاب المصالح هؤلاء طويلاً الحكم المخيف، ولن تسمح الدول الداعمة لهم بأية أفكار تصالحية، فهذا فات أوانه، وأعمالهم ستقودهم، ومهما فعلوا، إلى المحاكمات.
الآخر في النقاش السوري الجاري ليس موجوداً. كلُّ طرفٍ يتهجّم على الآخر، ويعتبره مخطئاً جملة ًوتفصيلاً. لم يراعِ فيه خطأً أو تعجّلاً أو عاطفة أو ألماً أو جهلاً أو نقصاً في المعرفة. حقيقة الأمر، هذا لا يشجّع الشعب السوري على تأييد تلك المحاكمات، ما دام المدافعون عن ضرورتها يتقاتلون وكأنّهم أصحاب سلطة، أو يحكمون دمشق أو تجري المحاكمات فيها. تفترض حقوق الضحايا ممن يصف نفسه بالنخبة، أو المثقف، أو مالك المعرفة، أن يخجل ويتواضع، وأن يعيد حساباته جيداً. الآخر، وليس فقط المعارض، الآخر، ومهما كان له من حقوق، ومن حقه أن يدافع عن قناعاته، أمّا الحكم فهو للقضاء فقط. غياب التعقل والاعتراف بالآخر في سورية يعني أن ثقافة الاختلاف ومبادئ الديمقراطية والمواطنة وحق القول وسواه كثير غير موجودة، وإذ نتفق مع الرأي أن الاستبداد السياسي أسّ البلاء هنا، فإننا نضيف: بعد كل ما جرى في سورية، تتحمّل المعارضة والمثقفون وأصحاب العقل دوراً كبيراً في ذلك الغياب، وطبعاً يمارسونه هم بذاتهم.
الحكم المؤبد لأنور رسلان يؤسّس لجديدٍ صلبٍ في إطار ملاحقة مجرمي الحرب في سورية وغير سورية، وأينما كانوا؛ هذا ما يجب الشغل عليه، فهل تعي النخب المثقفة ذلك؟