المأساة اليمنية
انتقل المبعوث الأممي السابق لليمن، مارتن غريفيث، قبل فترة وجيزة، إلى منصب جديد، بعد اختياره وكيلاً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. لم ينس اليمن سريعاً، بل على العكس من ذلك. بسبب ما يواجهه هذا البلد من أزمات، خصوصاً إنسانية، كان الوضع فيه حاضراً في أولى إحاطاته لمجلس الأمن الدولي، والأرجح أن انشغاله بهذا الملف، أقله من جوانبه الإنسانية، سيدوم طويلاً. غريفيث، المبعوث الأممي لليمن، فشل في تحقيق أي اختراقٍ في الأزمة طيلة مهماته. كان دائماً يربط، في تصريحاته، بين فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة بشكل كامل، وإطلاق "مفاوضات جادّة" والتوصل إلى وقف إطلاق نار.
بعد التخلص من عبء هذه المهمة التي تعاقب عليها أكثر من مبعوث من دون أي إنجاز، لم يعد غريفيث يجد حرجاً في تسمية الأمور من دون تجميل والخوف من إغضاب الحوثيين أو الحكومة. حديث غريفيث وكيلا للشؤون الإنسانية تضمّن التأكيد على ضرورة فتح مطار صنعاء لوصول المساعدات الإنسانية وسفر المواطنين، خصوصاً المرضى. كما شدّد على ضرورة "فتح ميناء الحديدة من دون أي قيود"، من دون أي تناول للعملية السياسية. رسم صورة قاتمة للوضع الذي يعرفه الجميع. ربط ذلك بوجود خمسة ملايين يمني باتوا على بعد خطوة من المجاعة.
ليس ما قاله غريفيث جديدا. يعيشه اليمنيون مأساة يومية في كل المحافظات، سواء الخاضعة لسلطة الأمر الواقع في صنعاء أو في مناطق الشرعية، أو حتى تلك المُهيمَن عليها من المجلس الانتقالي الجنوبي. يقفون في طوابير طويلة من أجل المياه والمشتقات النفطية، ويعيشون في ظل انقطاع حاد للكهرباء. وإن كانت الأوضاع الاقتصادية تحديداً أسوأ في مناطق الحوثيين، لا بسبب محدودية دخول السلع أو القيود على السفر، بل بسبب جشع الجماعة التي تدّعي عجزها عن دفع الرواتب للموظفين في مناطقها، بينما تنفق الملايين على جبهاتها المفتوحة، والتي بشّر زعيمها، عبد الملك الحوثي، أخيراً، بأنه يريد توسيعها.
يدفع اليمنيون، منذ عقود، ثمن المغامرات السياسية والعسكرية الفاشلة، لكن الأثمان، منذ انقلاب الحوثيين في 2014 وما تلاه من تدخل عسكري، فاقت قدرتهم. حوّلت حياتهم رأساً على عقب. تكفي بعض الأرقام للدلالة على ذلك. .. أحدث تقرير تلقاه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة سجل مقتل أو إصابة 18 ألف مدني يمني جرّاء أكثر من 23 ألف غارة منذ 2015، بمعدل عشر غارات يومياً. لم يوفر الحوثيون بدورهم المدنيين، جرّاء تعمّدهم قصف الأسواق والمطارات، وحتى مخيمات النازحين. وهؤلاء ليسوا سوى جزء من 200 ألف قتيل منذ 2015، بينهم ما يناهز "100 ألف قتيل لأسباب غير مباشرة كالتجويع وأسباب كان يمكن تجنبها، كقلة الخدمات الأساسية".
يدرك غريفيث وغيره كل هذه الحقائق وخطورة هذه الأرقام، وأن من لا تقتله الحرب معرّضٌ للموت بسبب تداعياتها. كما يعلم الجميع جيداً أن الأزمات لن تحلّ، سواء قلّت التصاريح أو تعدّدت، لأن لا إرادة لدى أيٍّ من أطراف الصراع الداخلي لوقف الحرب. فحتى اللحظة، لا يوجد ما يدفعهم إلى ذلك، فلا يشعر الحوثيون بأنهم في مأزق، بل على العكس يعوّلون على تحقيق مزيد من المكاسب العسكرية لترجمتها على طاولة المفاوضات السياسية متى ما حانت اللحظة المناسبة لذلك، و"الشرعية" ترى في استمرارية الحرب منفذاً وحيداً لبقائها، لأن أي تقاسم للسلطة ستخرج منه خاسرةً بمقاييسها.