الليبيون في انتظار الجديد المفيد
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
ليبيا بلد مترامي الأطراف، مساحته حوالي 1.760 مليون كيلومتر مربع؛ عدد سكانه نحو 6.8 ملايين نسمة، يمتلك ثروات طبيعية كبيرة (سيما النفط، الإنتاج اليومي في حدود 1.3 مليون برميل، والغاز، الإنتاج السنوي حوالي 12.4 مليار متر مكعب). بلد لديه أطول ساحل أفريقي يطل عل البحر المتوسط (حوالي 1770 كم)، قريب من أوروبا، يحظى بقدراتٍ واعدةٍ على صعيد الطاقة المتجدّدة، خصوصا الشمسية منها؛ هذا إلى جانب الإمكانات الزراعية والرعوية، فضلاً عن المزايا السياحية المتنوعة، حيث يتعانق النخل مع الجبل والبحر والسهل والصحراء.
ولكن المشكلة التي تعاني منها ليبيا أن الروابط ما قبل الوطنية (القبائلية والمناطقية) متقدّمة فيها على الراوابط الوطنية. لا توجد مؤسسات وطنية مستقرّة تحظى بثقة الليبيين في جميع المناطق؛ كما لا توجد منظمات مجتمع مدني على المستوى الوطني، ولا أحزاب وطنية، كان من شأنها ترسيخ الروح والثقافة الوطنيتين على قاعدة المصالح المشتركة لسائر الليبيين في جميع الجهات الليبية من دون أي تمييز أو تهميش. ومن شأن مثل هذا الأمر، في حال تحققه، مصادرة إمكانية استغلال بعضهم الهواجس المناطقية، أو النزعات القبلية، فضلاً عن المصالح الخاصة، في عمليات التعبئة والتجييش لصالح مشاريعهم ومشاريع داعميهم من القوى الإقليمية والدولية، هذا الاستغلال الذي تمثل في الاشتباكات والمعارك التي اندلعت، وتندلع، من حين إلى آخر، بين مختلف المناطق الليبية، أو حتى ضمن المنطقة الواحدة.
ومع انطلاقة الثورة الليبية في أوساط فبراير/ شباط 2011، انتعشت الآمال بإمكانية التفاعل بين مختلف المناطق الليبية في الشرق والغرب والجنوب. وكانت تجربة المجلس الوطني الانتقالي واعدة في البدايات. ولكن يبدو أن الخلافات سرعان ما دبّت بين أطرافه، أو أنها كانت موجودة حتى قبل التأسيس. الأمر الذي لم يمكّن الليبيين من بلوغ طموحاتهم المشروعة؛ وهي طموحاتٌ لا تتجاوز حدود الرغبة في العيش الحر الكريم ضمن وطنٍ مستقلٍّ آمن، يتسم بأهمية جيوسياسية بالغة الحيوية بالنسبة إلى الأوروبيين والأفارقة، كما أنه يمثل حلقة الوصل بين المشرق والمغرب.
في سياق جهود كل فريق لتأمين الدعم المطلوب لتعزيز المواقع، استنجدت الأطراف الليبية بالقوى الإقليمية والدولية التي استعانت بالمرتزقة متعدّدة الجنسيات
وقد شعرنا بهذا الخلاف منذ الأيام الأولى للثورة الليبية خلال زيارتنا الخاصة ضمن وفد المجلس الوطني السوري إلى ليبيا من أجل اللقاء مع أعضاء المجلس الوطني الليبي الانتقالي، ورئيسه مصطفى عبد الجليل، وذلك للاستفادة من تجربتهم والتعبير عن مساندتنا الشعب الليبي العزيز. وكانت تلك الزيارة أول زيارة خارجية للمجلس الوطني السوري، ولم يكن اختيار طرابلس من باب المصادفة، بل كان بمثابة رسالة رمزية تؤكّد التضامن، فمن بين ما أثار انتباهنا في ذلك الحين غياب الأخ المرحوم محمود جبريل عن الاجتماع، مع معرفتنا بوجوده في طرابلس، الأمر الذي أثار التساؤل والتوجس في الوقت ذاته.
واستمرّت الحالة التنازعية، فاليوم هناك خلافات وتباينات، بل وصراعات، بين مختلف الأطراف. ورغم لقاءات واجتماعات وتوافقات كثيرة كانت بين الأطراف الليبية في الداخل والخارج. ورغم محاولات المسؤولين الأمميين، وجهود الدول الأوروبية المحتاجة إلى النفط الليبي، التي استهدفت تدوير الزوايا وتقريب وجهات النظر بين الأشخاص والمؤسسات الرسمية كما حصل في الاتفاق أخيرا بشأن استئناف تصدير النفط، ما زالت الخلافات سيدة الموقف؛ وهذا ما يرهق الليبيين، ويدفع بهم نحو الاحتجاجات والمطالبة بتوفير الأمن وأبسط مقوّمات العيش الكريم، وقد بلغت هذه الاحتجاجات ذروتها أخيرا في عملية اقتحام مبنى مجلس النواب في طبرق، وهو المجلس الذي انتهت صلاحيته، كما انتهت صلاحية المجلس الرئاسي منذ زمن بعيد. ولا تقتصر التباينات والمواقف المتعارضة، والتصريحات المتناقضة على مجالس النواب والرئاسي والدولة؛ بل تشمل القوى المسلحة، سواء شبه الرسمية أم التي تخص المليشيات بمسمياتها وألوانها المختلفة.
وفي سياق جهود كل فريق لتأمين الدعم المطلوب لتعزيز المواقع، استنجدت الأطراف الليبية بالقوى الإقليمية والدولية التي استعانت بالمرتزقة متعدّدة الجنسيات، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من التعقيد، وجعل محاولات التوفيق بين الليبيين أنفسهم على غاية الصعوبة، لأن العملية برمتها باتت خاضعة لحسابات إقليمية ودولية، خصوصا وأن ليبيا تمتلك إمكانات كبيرة في ميدان انتاج النفط الذي تحتاجه الدول، وهي إمكانات يسيل لها لعاب الشركات والمافيات الدولية والإقليمية والمحلية.
حواجز ومشاعر نفسية ومظلوميات تفصل بين المناطق الليبية الرئيسة الثلاث في الشرق والغرب والجنوب
حاليا، في ليبيا حكومتان حولهما الجدل، ومجلس نواب منتهي الصلاحية، ومجلسان أحدهما رئاسي منتهي الصلاحية، والثاني خاص بالدولة من الصعب تحديد صلاحيته ومعرفة طبيعة سلطته في الظروف الحالية التي تعيشها ليبيا. كما يوجد جيش يقدّم نفسه بوصفه الجيش الوطني، وقوات عسكرية تتبع حكومة عبد الحميد الدبيبة، فضلا عن فصائل مسلحة. .. كل هذه العوامل، وغيرها، تحول راهناً دون بناء الدولة الوطنية المتماسكة المبنية على إرادة الليبيين الأحرار. وفي الوقت ذاته، هناك حواجز ومشاعر نفسية ومظلوميات تفصل بين المناطق الليبية الرئيسة الثلاث في الشرق والغرب والجنوب، وهي المناطق التي كانت تعرف قبل تشكيل الدولة الوطنية الليبية بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945 بـ مناطق أو أقاليم: برقة وطرابلس وفزان. وهي حواجز ومشاعر متفاعلة مع ظواهر الفساد وحسابات المستفيدين من الأوضاع القائمة.
وهناك حديث عام بين أصحاب مختلف المبادرات بشأن ضرورة إجراء الانتخابات لحسم الخلافات، وتفعيل الدولة الليبية عبر حكومة وطنية جامعة. هذا مع أن الانتخابات، في حقيقتها، حصيلة عمليات متداخلة متكاملة، يجري الالتزام بقواعدها وقيمها في الأنظمة الديمقراطية. وهي الأنظمة التي تقوم، بالدرجة الأولى، على الأحزاب التي تطرح برامج انتخابية تجذب هذه الشريحة أو تلك من الشرائح المجتمعية، لا القبائل، وقد تناول المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم في أكثر من مناسبة هذا الموضوع بالشرح والتحليل. ولا يمكن أن تكون الانتخابات حلاً من دون وجود ثقافة سياسية تعترف بحق الأغلبية السياسية في الحكم؛ وبحق المعارضة في النقد والمراقبة؛ ونظام قضائي مستقلّ يراقب عمل السلطات، تكون قراراته ملزمةً للجميع، فالانتخابات بالصيغة المطروحة حالياً لن تكون هي الحل، من دون توافق الليبيين على العيش المشترك ضمن نطاق دولة بسيطة تطمئن الجميع، وتضمن عيشاً حرّاً كريماً لسائر الليبيين في مختلف المناطق الليبية من دون أي تمييز له صلة بالموقع الجغرافي أو الانتماء المجتمعي. ويُشار في هذا السياق بصورة خاصة إلى وضعية الأمازيغ/ البربر والطوارق في الغرب الليبي ومنطقة غدامس، فضلاً عن أوضاع سكان الجنوب الليبي.
لا بد من البحث عن منطلقات جديدة تعيد النظر في مشاريع الحلول المطروحة، فالدولة المركزية البسيطة، قد لا تكون الحل الممكن في الظروف الحالية
مرّت أكثر من عشرة أعوام، والليبيون في الدوّامه نفسها، لا توجد دولة متماسكة في واقع الحال؛ والمؤسسات الحيوية معطَّلة. أبسط الخدمات الطبية مفقودة، وذلك كله يُلزم بالبحث عن حلول من خارج الصندوق إذا ما صحّ التعبير. لا بد من البحث عن منطلقات جديدة تعيد النظر في مشاريع الحلول المطروحة، فالدولة المركزية البسيطة، قد لا تكون الحل الممكن في الظروف الحالية، وبناء على العوامل المشار إليها، وربما غيرها. لذلك قد يكون من المناسب التفكير في حلول أخرى، منها إيجاد صيغة من صيغ الاتحاد بين مختلف المناطق الليبية، صيغة قد تكون مقدّمة لدولة وطنية ليبية عادلة، تقف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها في مختلف المناطق، بغضّ النظر عن انتماءاتهم المجتمعية (القبائلية والجهوية والإثنية والمذهبية) وتوجهاتهم السياسية والفكرية.
وبالتكامل مع هذه الخطوة، ربما من المناسب التفكير في مجلس رئاسي جماعي فاعل، يضم ممثلي المناطق الثلاث، تكون الرئاسة الإدارية فيه بالتناوب، وتكون هناك آلية لاتخاذ القرارت تراعي مصلحة الليبيين في جميع المناطق. ويمكن في هذا المجال أيضاً التفكير في مشاريع اقتصادية كبيرة، تكون أساساً لربط مختلف المناطق بعضها ببعض، وتضمن، في الوقت ذاته، المزيد من فرص العمل أمام الشباب الليبي. وبموزاة ذلك، هناك حاجة لتعديل المناهج الدراسية على مختلف المستويات، تركز على تعريف الليبيين ببعضهم، وتُبرز المشتركات الجامعة بين الليبيين في مختلف المناطق، وتشدد على أهمية وأولوية الرابطة الوطنية.
إنها مجرّد أفكار عامة أولية، قد تصلح لأن تكون أرضية لحلٍ ينقذ الليبيين من المحنة التي هم فيها، أو مقدّمة لتطوير أفكار جديدة تساهم في بلورة معالم مشروع وطني ليبي يرتقي إلى مستوى تطلعات الشعب الليبي العزيز وتضحياته وقدراته.
أما الاستمرار في مشاريع الحلول الراهنة المبنية على خلفية الصراع بين القوى المهمينة في هذه الجهة أو تلك مؤكّد أنه لن يؤدي إلى المطلوب الذي ينتظره الليبيون ويستحقونه. إذ لم يعد سرّاً أن القوى المتصارعة على السلطة والثروة في ليبيا تستقوي بالفاعلين الإقليميين والدوليين، وهؤلاء يحاولون ترتيب الأوضاع وفق حساباتهم ومصالحهم، لا وفق مصالح الشعب الليبي المغلوب على أمره وتطلعاته.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.