اللعب بالنار في مصر
رتلٌ من السيارات السوداء المصفّحة، يحرُسه فوج من العربات المكشوفة يعتليها مسلّحون، ومواطنون على جانبي الطريق ينظرون إلى هذا الموكب الرهيب، إذ يتحرّك في الطريق إلى احتفالية إعلان تأسيس ما يسمّى "اتحاد القبائل العربية" في مصر، بقيادة أحد أذرع السلطة الأمنية والاقتصادية في سيناء.
في المساء، ومساءاتٍ لاحقة، يطل كل ليلة المتحدّث باسم اتحاد القبائل، القومي العربي السابق، والناصري الغابر المدافع سابقًا عن وحدة الأمة، عربية كانت أم مصرية، مصطفى بكري، مهاجماً كل من ينتقدون إنشاء هذا الاتحاد القبلي، في منطقة ساخنة ولحظة زمنية أشدّ سخونة، فيقول تارّة إن الاتحاد بمثابة فصيل تابع للقوات المسلحة، وأخرى يتراجع ليقول إنه داعمٌ قويٌّ للجيش والشرطة ومؤسّسات الدولة الأمنية.
في المساءات ذاتها، تطل النسخة النسائية من مصطفى بكري المذيعة بإحدى القنوات التلفزيون التابعة لجهاز أمني سيادي، لتصرخ وتنتحب في وجه من ينتقدون استنساخ مأساة مليشيا الجنجويد في مصر، فيردد الخائفون على بلد كبير مع الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور: لا يوجد مستقبل.
الفزع طبيعي ومشروع، بل وواجب، من مشاهد الإعلان عن تأسيس اتحاد قبلي برئاسة الشخص المهيمن أمنيًا واقتصاديًا على شبه جزيرة سيناء، والقلق من الخطاب المصاحب لإنشاء هذا الكيان العجيب مبرّر، في دولة تتباهى بأنه نموذجٌ للدولة للعسكرية الصارمة، وصاحبة أقوى الجيوش في المنطقة. وعلى ذلك، يكون القول إن الاتحاد القبائلي الذي يطلّ في استعراضٍ مخيف، فصيل تابع للجيش، أو حتى مجرّد داعم للجيش، هو إساءة بالغة لجيش أكبر دولةٍ عربية، يحمل في رصيده أربع حروبٍ خاضها، إذ لا معنى لاستحداث مجموعات أو اتحادات قبلية مليشياوية لإسناده سوى أنه غير قادرٍ على الاضطلاع بالمهمّات الموكلة له دستوريا على الوجه الأكمل.
المزعج أكثر الاحتفاء الإعلامي بالخطوة المجنونة، ما يشي بأن تقسيم الوطن قبليّاً وعرقيّاً يتم برضا السلطة الحاكمة، وهو الأمر الذي يزرع المستقبل ألغامًا مدمّرة، إذ إن الأوطان لا تنشطر وتتمزّق جغرافيًا وسياسيًا إلا بعد مرحلة طويلة من الحفر تحت أساساتها، تكون الضربة الأولى فيها تفتيت الهويات وتقطيع النسيج إلى إثنياتٍ متفرّقة، وهو ما يضعنا أمام سؤال: ماذا لو قرّرت قبائل النوبة في أقصى جنوب مصر أن تُقدم على خطوة مماثلة وتعلن تأسيس اتحاد القبائل النوبية؟.
لا يمكن هنا منع الذاكرة من استدعاء اسم برنارد لويس، اليهودي البريطاني المهاجر إلى أميركا، والذي وضع تصوّراً لتقسيم الدول العربية جغرافيًا وسياسيًا وعرقيًا، بحيث تتفتّت كل دولة منها إلى قطع صغيرة متناثرة ومتنافرة، وحين نظر إلى مصر تمنّاها مقسّمة دينيّاً، مسلمين ومسيحيين، وعِرقيّاً، إلى دولة للنوبة في الجنوب، دولة للبدو في سيناء، وصولًا إلى الدولة الفلسطينية كما يريدها الصهاينة، لتشمل منطقة شمال سيناء بعد ضمّها إلى غزة.
في مقال له حمل عنوان "الشرق الأوسط الجديد في التصور الأميركي الصهيوني" ونشر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 عرّج عبد الوهاب المسيري على تصوّر برنارد لويس، ثم انتقل إلى مخطّطات الاحتلال الصهيوني، مشيراً، على سبيل المثال، إلى موقف جيورا آيلاند رئيس شعبة العمليات بالجيش الإسرائيلي سابقاً، والرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني المسؤول عن وضع الإستراتيجية الأمنية للدولة الصهيونية، حيث طرح خطّته لإعادة تنظيم الشرق الأوسط (في حديث له مع آري شفيط من صحيفة هآرتس) فاقترح ضم 12% من الضفة الغربية (600 كلم2) إلى الدولة الصهيونية و600 كلم2 أخرى من مصر تُضمّ إلى قطاع غزّة، ويوطن فيها مليون نسمة (لإقامة ميناء بحري ومطار دولي) على أن تعطى مصر 150 كلم2 في النقب تعويضاً لها".
يقول المسيري، في مقاله، إنه يمكن القول، بكثير من الاطمئنان، إن الإستراتيجية الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلاتٍ إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه.
وقد غُرست إسرائيل في قلب هذه المنطقة لتحقيق هذا الهدف، فعالم عربي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة يعني أنه سيشكّل ثقلا إستراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقاً أمام الأطماع الاستعمارية الغربية.
أخيراً، لا يمكن إغفال ما يردده الصهاينة منذ بدء العدوان على غزة والتحضير لدخول رفح، عن مخطّطات ديموغرافية تشمل غزّة وسيناء، عند النظر إلى مقدّمات (ومآلات) اللعب بالنار الذي يجري في مصر الآن.