اللاجئون السوريون في ميزان السياسة الداخلية التركية
على مدى السنوات الماضية، كانت استضافة تركيا العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الذين فرّوا هرباً من الحرب علامة على كرم الضيافة والتعاطف الواسعين اللذين أبداهما الأتراك تجاه مأساة السوريين. خلال السنوات العشر الماضية من الحرب، استضافت البلاد ما يقرب من 3.7 ملايين لاجئ سوري، وعملت على دمج كثيرين منهم في المجتمع التركي، من خلال تسهيل دخولهم في سوق العمل، وتحفيزهم على تعلم اللغة التركية وانخراطهم في النظام التعليمي التركي. بالإضافة إلى ما يقرب من 33 ألف طالب سوري يدرسون في الجامعات التركية، هناك أكثر من نصف مليون طفل سوري مسجّلون في المدارس في جميع أنحاء تركيا، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة المعنية بالطفولة (يونيسف)، وباتوا يُتقنون اللغة التركية، بالإضافة إلى تخصصات أخرى. يُمكن بوضوح ملاحظة الاندماج الواسع للاجئين في مختلف أنحاء البلاد، من خلال المصالح التجارية التي أقاموها، والتي شكّلت دفعة للاقتصاد التركي، أو عبر عملية التجنيس التي نفّذتها الحكومة التركية لما يقرب من 174 ألف لاجئ بين 2011 و2020، بهدف الاستفادة من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية ورجال الأعمال وغيرهم.
ولكن ما كان يُنظر إليه على أنه كرم استضافة تحول اليوم إلى عبء على الدولة التي تبحث عن سبل لإعادة معظم اللاجئين إلى وطنهم. في الثالث من مايو/ أيار الجاري، كشف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن مشروع لإعادة مليون لاجئ سوري بشكل طوعي إلى المناطق الآمنة التي أنشأتها بلاده في شمال سورية. على عكس المشاريع السابقة التي نفّذتها تركيا لإعادة اللاجئين، ولم تتمكّن فيها من إعادة سوى نصف مليون سوري فقط، يبدو المشروع الجديد أكبر بكثير من حيث العدد والمناطق المستهدفة. يشمل المشروع 13 منطقة، من بينها مدينتا إعزاز وجرابلس في شرق الفرات ومدينتا تل أبيض ورأس العين في غرب الفرات، وكلّها مناطق خاضعة بالفعل لإدارة تركية منذ سنوات، وقد أقامت فيها تركيا مشاريع خدمية واسعة، على غرار تأهيل المباني وإنشاء مستشفيات ومدارس وجامعات وغيرها. علاوة على ذلك، عدد اللاجئين المنوي إعادتهم كبير جداً مقارنة بالعدد الإجمالي للاجئين في تركيا، إذ يُمثل ثلثهم تقريباً، وهو ما يتطلب جهداً لوجستياً كبيراً في تنفيذ المشروع. بالنظر إلى أن العوامل التي تدفع أردوغان إلى الشروع بمعالجة مسألة اللجوء السوري مرتبطة على الأرجح بالضغوط الداخلية التي يتعرّض لها من المعارضة، فإن نجاح المشروع الجديد في تحقيق بعض أهدافه يستلزم إنجازه قبل الانتخابات المقبلة، أي في أقل من عام، وهي فترة قصيرة، وقد لا تكون مساعدة بما يكفي له.
تقدّم المعارضة التركية طرحاً غير واقعي لقضية اللاجئين السوريين من خلال جعلها مادة للنقاش الشعبوي في الداخل
بالإضافة إلى ذلك، تبرُز مسألة ضمان أمن اللاجئين الذين ستجرى إعادتهم مثار جدل، بالنظر إلى عدم استقرار الحالة الأمنية بالكامل في المناطق التي تُديرها تركيا، ففي منطقة نبع السلام التي أنشأها الجيش التركي في شرق الفرات لا تزال وحدات حماية الشعب الكردية تشنّ، بين الفينة والأخرى، هجمات على المنطقة، وإن كانت محدودة مقارنة بالسابق. كما أن هناك احتمالية لتجدد الصراع بين تركيا والوحدات الكردية في ضوء تلويح أنقرة أخيراً بشن عملية عسكرية جديدة في المنطقة. أما بالنسبة للمناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية في شرق الفرات، يبدو الوضع الأمني مستقراً بشكل أكبر. مع ذلك، فإن بقاء مسألة إدلب معلّقة بين تركيا والنظام السوري وحلفائه من دون بوادر حل نهائي لها في المستقبل القريب، وارتباطها بتسوية سياسية شاملة للصراع، يُبقي على احتمال التصعيد العسكري قائماً في أي وقت. يعيش في إدلب أكثر من ثلاثة ملايين شخص بين مُقيم ونازح. وأي انهيار لوقف إطلاق النار سيدفع كثيرين منهم إلى التوجه نحو المناطق الأكثر أمناً في الشمال، ما سيزيد من العبء السكاني في المنطقة، ويُصعب من عملية نقل عدد كبير من اللاجئين من تركيا إليها.
بقدر ما شكّل الوضع الاقتصادي الذي كان مزدهراً في تركيا خلال السنوات الأولى للصراع السوري عاملاً رئيسياً لاستقرار معظم اللاجئين في البلد المضيف، تلعب الظروف الاقتصادية في الشمال السوري دوراً أساسياً في تحديد مدى تقبل لاجئين كثيرين فكرة العودة الطوعية. في الواقع، أثرت أزمة العملة التي تُعانيها تركيا منذ سنوات بشكل مباشر على سكان الشمال السوري الذين يتداولون الليرة التركية بدلاً من السورية، وفاقمت، على نحو كبير، من ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية الرئيسية. وفي حال لم تتمكّن حكومة أردوغان من تحسين الوضع الاقتصادي في الشمال السوري، فإنها ستجد صعوبةً في إقناع اللاجئين بالعودة. مع ذلك، يقلّص تزايد الصعوبات التي يواجهها اللاجئون في تركيا، إن على صعيد القيود المتزايدة التي تحد من قدرتهم على التنقل بين الولايات التركية أو على مستوى تصاعد الخطاب العنصري ضدّهم، ومحاولة بعض الأوساط تحميلهم مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي التركي، يُقلّص من خياراتهم للبقاء في تركيا أو العودة الطوعية إلى سورية.
مع اقتراب تركيا من انتخابات 2023 الحاسمة، تعود قضية اللجوء السوري لتتصدّر الأجندة السياسية الداخلية
منذ التدخل العسكري التركي الأول في سورية عام 2016 كان إنشاء منطقة آمنة لإيواء اللاجئين والنازحين أحد الأهداف الرئيسية لأردوغان. على الرغم من مضي ست سنوات على الوجود التركي وإنشاء بعض الجيوب الآمنة، إلاً أن السلطات التركية لم تتمكّن من إعادة سوى 15% من اللاجئين لديها إلى هذه المناطق. يُعزى ذلك إلى سببين رئيسيين، أوّلهما أن سوريين كثيرين مقيمين في تركيا يُفضّلون البقاء فيها، بالنظر إلى المصالح التجارية التي أقاموها في البلد، فضلاً عن خشيتهم من عودة غير آمنة إلى سورية. وثانيها أن الحكومة التركية لم تضغط بما يكفي خلال السنوات الماضية على اللاجئين للعودة. لكن واقع أن اللجوء السوري أضحى، بعد الانتخابات التركية في 2018، مادة رئيسية في التراشق السياسي بين الحكومة والمعارضة، دفع أردوغان إلى التحوّل تدريجياً في مقاربته هذه المسألة. بعد هزيمة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في الانتخابات المحلية في يونيو/ حزيران 2019 في إسطنبول وأنقرة، بدأت الحكومة تتبنّى نهجاً مختلفاً تجاه اللاجئين، عبر بوابة إعادة تنظيم اللجوء السوري في البلاد. وكان هذا التوجّه مدفوعاً، بشكل أساسي، بمساعي أردوغان لمواجهة انتقادات المعارضة المتزايدة أداءه في ملف اللاجئين.
ومع اقتراب تركيا من انتخابات 2023 الحاسمة، تعود قضية اللجوء السوري لتتصدّر الأجندة السياسية الداخلية. بالإضافة إلى مساعي أحزاب المعارضة التركية لتوظيف مسألة اللاجئين من أجل حشد الرأي العام التركي ضد أردوغان، لعب الوضع الاقتصادي المتردّي دوراً مباشراً في تأجيج النزعة المعادية للجوء السوري بين الأتراك. ويُمكن المجادلة في مدى صوابية خطاب المعارضة تجاه اللاجئين، بيد أن حقيقة أن هذه القضية باتت مادّة رئيسية في الخطاب الانتخابي للمعارضة جعلت من الحسابات السياسية لكل من أردوغان ومعارضيه الدافع الرئيسي في كيفية مقاربتها. ويبدو المشروع الذي أطلقه أردوغان لإعادة مليون لاجئ سوري محاولة لقطع الطريق على أحزاب المعارضة لمواصلة استثمارها في هذه المسألة، لكنّ هذا المشروع سيجعل من انتقاد أردوغان هدفاً أكبر للمعارضة فيما لو أخفق بالفعل في تحقيق وعده قبل الانتخابات المقبلة. يعد حزب الشعب الجمهوري المعارض بإعادة اللاجئين السوريين على الفور لو نجحت المعارضة في إطاحة حكم أردوغان، لكنّ مقاربة المعارضة مسألة اللاجئين تحوّلهم بشكل متزايد إلى ضحية في التنافس الانتخابي التركي.
يبدو المشروع الذي أطلقه أردوغان لإعادة مليون لاجئ سوري محاولة لقطع الطريق على أحزاب المعارضة لمواصلة استثمارها في المسألة
لقد أظهرت حكومة أردوغان خلال العقد الماضي حكمة في إدارة مسألة اللجوء السوري، من خلال التمسك بالقيم الإنسانية، وعزل القضية عن التنافس السياسي الداخلي، على الرغم من الثمن الذي دفعته في صراعها السياسي مع المعارضة. ومعلوم أن هذه القضية تستوجب معالجةً، في نهاية المطاف، إذ من غير الواقعي أن يبقى اللاجئون السوريون في تركيا إلى الأبد. كما أن المعارضة التركية تُقدّم طرحاً غير واقعي لهذه القضية من خلال جعلها مادة للنقاش الشعبوي في الداخل. سيتعين على كل من الحكومة والمعارضة الحرص على إظهار الحسّ الإنساني في حل هذه المعضلة، وإبعادها قدر الإمكان عن الأجندة السياسية الداخلية. والاستقرار المجتمعي بين الأتراك واللاجئين السوريين أمر بالغ الأهمية لتركيا، بالنظر إلى الروابط العميقة التي نشأت بين الطرفين. كما أن حقيقة أن كرم الاستضافة ساعد تركيا في إيجاد بيئة حاضنة لها بين السوريين لمواجهة المخاطر الأمنية على حدودها الجنوبية مع سورية تجعل من المعالجة الحكيمة لقضية اللجوء أمراً ضرورياً لتركيا في المستقبل، بغض النظر عن الطرف الذي سيحكم البلاد بعد انتخابات 2023.