الكثير من الكراهية والتوحّش

الكثير من الكراهية والتوحّش

09 مارس 2024
+ الخط -

قد يكون من الصعب التنبّؤ بكل تأثيرات حرب 15 إبريل/ نيسان على السودانيين، لكن المؤكّد أن عدداً كبيراً منهم يعاني وسيعاني من اضطراب ما بعد الصدمة نتيجة هوْل ما حدث فجأةً بدون مقدّمات، إذ انهارت حياة الملايين، واضطرّ حوالي عشرة ملايين مواطن للنزوح، وفقدوا مدّخرات أعمارهم وتفرّقت أسرهم.

الذين بقوا داخل البلاد، في العاصمة الخرطوم مثلاً، عاشوا عاماً بلا خدمات مياه أو كهرباء في عدّة مناطق، وأصبحت الغارات الجوية أو سقوط القذائف حولهم أمراً روتينيّاً. كما انتشرت القبور المرتجلة في الشوارع الجانبية وباحات المنازل. تجارب كهذه تترك آثارَها النفسية، ولا تمر بخير. بحسب مايو كلينك (المؤسّسة الطبّية الأشهر في العالم)، من أعراض كرب ما بعد الصدمة الكوابيس، والتوتّر والتغيرات السلبية في المزاج، ومشكلات بالذاكرة، والشعور بالانفصال عن المقرّبين، والتبلد العاطفي وفقدان الشغف بما كان يحبّه المرء سابقاً.

هناك أيضاً حالة التوحّش التي أصابت كثيرين، فمع حرب تستقبل رمضان 1445هـ وقد بدأت في الأيام الأخيرة من رمضان 1444هـ انتشر الولع بالعنف والكراهية ضد الآخر بلا حسيب. بل لعلها أصبحت، للأسف، المتنفس الوحيد لشعور العجز الذي أصاب الملايين.

ينشر مؤيدو القتال من الطرفين صور جثث القتلى في تلذّذ. وأطلق بعضُهم على طائرات الجيش لقب "صانعة الكباب"، وأصبحت صور جنود الدعم السريع المحترقة تعرف باسم "الكباب المشوي". على الجانب الآخر، تُنشر فيديوهات جثث جنود الجيش يلهو حولها جنود الدعم السريع وهم يطلقون التكبيرات! كما انتشر فيديو مزعج لمجموعة من ضبّاط الجيش يحملون رؤوساً مقطوعة لمن قيل إنهم مقاتلون في قوات الدعم السريع. استفزّ الفيديو الصادم الجيش السوداني إلى درجة إصدار تصريح صحافي بعملية تحقيق بشأن الفيديو ومن ظهروا فيه. وهو تحقيقٌ لم يسمع أحدٌ عنه شيئاً بعد ذلك، لكن التصريح الصحافي كان دليلاً على انزعاج قيادة الجيش من الفعل أو نشره على الأقل. لكن الاحتفاء الذي وجده هذا المقطع المصوّر لم يتراجع عقب تصريح الجيش، بل تحوّل الاحتفاءُ الى غضبٍ على الجيش لعدم إعلان دعمه الجريمة. بينما تلقى شكاوى النازحين ضحك مؤيدي قوات الدعم السريع سعادتهم، بمنطق أنه عقابٌ مستحقٌّ لمن استحوذوا على السلطة والثروة في البلاد عقوداً، وإن حسرة المواطنين على منازلهم وأملاكهم هي الآهة الأخيرة التي تطلقها دولة 1956 قبل أن تلفظ أنفاسها، لتحلّ محلّها دولة جنجويدية تدّعي أنها ستحقّق الديمقراطية عنوة!

مشاهد التمثيل بجثة والي غرب دارفور خميس أبكر، وسط زغاريد النساء! صور الأسرى يزحفون على الأرض، تحيط بهم ضحكات الجنود! ومع الاضطراب الذي شعر به الكل، شاع الحديث عن "خيانة" الطبقات الفقيرة. وهي طبقاتٌ تنتمي غالباً إلى إثنيات غير عربية أو متحدرة من مناطق كردفان ودارفور، فتداول الناس التحذيرات من بائعات الشاي في الشوارع والأحياء ومن الغرباء وفقراء العمّال، وأصبحوا مستهدَفين بالاحتجاز والتحقيق معهم حتى من المواطنين المدنيين في الأحياء السكنية.

كما تبارى أنصار الحرب من المدنيين من الطرفين بدعوة الجيوش المتحاربة إلى غزو ما يعتبرونه حواضن مجتمعية للخصم، فطالب بعضُهم الجيش السوداني بقصف مدن ومناطق مدنية في دارفور، لأن قوام قوات الدعم السريع من أبناء تلك المناطق! في حين طالب مؤيدون لـ"الدعم السريع" بنقل الحرب إلى شمال السودان وإحراق نخيله. وهي كلها سيناريوهات محتملة بعد المذابح العرقية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والمتحالفون معها في مدينة الجنينة وغيرها.

طاولت دعوات القتل حتى المدنيين، فظهرت كتابات تهدر دماء بعض الأسماء من السياسيين والصحافيين، وتتوعّدهم بالذبح والقتل نتيجة مواقفهم أو آراء أعلنوا عنها!. ... هذه أشياء لن يتجاوزها المجتمع السوداني بيسر. وحتى لو نجحت الضغوط الدولية في فرض هدنةٍ إنسانية مع حلول رمضان 1445/ 2024، فإن ما فعله عام من الحرب لن يصلحه شهر هدنة، وإن صمدت الهدنة.