الكاريزما وبناء الصورة السياسية للقادة

04 أكتوبر 2024

الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يلقي خطاباً إذاعياً (Getty)

+ الخط -

غالباً ما تتحوّل آمالُ الأفراد وطموحاتهم ومخاوفهم ضمن الجماعات عبادةً للزعيم الواحد، الذي يتمتّع بكاريزما عالية، يصطفّ تحت لوائه أفرادُ هذه الجماعات ويأتمرون بأمره وبمشورته عليهم. ربّما نتوقّع أنّ هذا التحوّل يرتبط بالزعامة القبَلية والعشائرية والدينية التقليدية فحسب، ولكن يمكن تعميمه على الجماعات التقليدية القديمة، وصولاً إلى الدول الحديثة والمنظّمات السياسية والحركات المسلّحة، خاصّةً التي تديرها أنماط الأنظمة الاستبدادية منها والشمولية، لينتقل الولاء (في معظم الحالات) من العقلانية إلى العاطفية والرومانسية في التعامل مع الزعيم. ويرتبط هذا التحوّل أيضاً بالشخصية العامّة والمزاج التفاعلي للقادة، اللذين يُشار إليهما بمصطلح "الكاريزما السياسية"، سرّ وصفة نجاح القيادة السياسية، لأنّها تساعد القادة على جذب انتباه الجمهور، وبناء الثقة في قدراتهم، وتشكيل روابطَ عاطفيةٍ قويةٍ مع شعوبهم. يتمتّع القادة السياسيون الكاريزماتيون بهالةٍ تُمكّنهم من التأثير في السياسات المحلّية والدولية بفعّالية عاليةٍ، وتمكّنهم من السيطرة (بمعنى الإدارة والتحكّم)، على وسائل القوة الصلبة لصالح وسائل القوة الناعمة، التي تُحسِّن صورتهم لدى الجمهور العام، المحلّي والعالمي.
مواهب استثنائية
تُعرّف الكاريزما في القيادة السياسية بأنّها قدرة القائد على إلهام الولاء، وإثارة المشاعر القوية، وتقديم رؤى تتماشى مع تطلعات الجماهير وآمالها بالصعود بين الجماعات الأخرى. تتمكّن شخصيات السياسيين الكاريزماتية من تشكيل مستقبل الجماعات التي يشرفون عليها عبر تنظيم مستويات الإدارة الداخلية، وتقديم نماذجَ خدمة إدارية مميّزة عن باقي الجماعات، وترتيب علاقاتها الخارجية بما يضمن مصلحة الجماعات العليا وفق القواعد الدستورية للجماعات، وقواعد الدبلوماسية العامّة. طوّر هذه النظرية عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ووضعها ضمن إطار السلطة الكاريزمية عبر دراسة حالة الحزب النازي، وصولاً إلى لينين وغيره، وتشير إلى أنّ الكاريزما تنبثق من امتلاك القائد صفاتٍ استثنائية على المستويات الشخصية والاجتماعية والسياسية، تمكّنه من جذب الأتباع، وتجاوز حدود الهياكل التقليدية والمؤسّسية للسلطة. ويميّز فيبر في طرحه هذا بين ثلاثة أنواع للسلطة. أولاها، السلطة التقليدية المُتجذِّرة في العادات والتقاليد والممارسات الراسخة، فيستمدّ القادة شرعيتهم وكاريزما القيادة من الاستمرارية التاريخية لحكمهم. ومن الأمثلة على ذلك الملكيات أو زعماء القبائل، إذ تنتقل السلطة من خلال النسب أو المعايير الثقافية والاجتماعية المُتعارَف عليها. النوع الثاني من السلطة هو القانونية العقلانية، التي تستند إلى قوانينَ وأنظمةٍ غير شخصيةٍ، وفيها يُختار القادة على أساس العمليات القانونية الدستورية، ويمارس القادةُ من خلال هذا النمط سلطتَهم في إطارٍ بيروقراطي، كما الحال في الدول الحديثة ذات الأنظمة الديمقراطية والمسؤولين المنتخبين عبر برامج انتخابية واضحة المعالم. وعلى عكس النوعين السابقين، يأتي نمط السلطة الكاريزماتية ليشير إلى نمط العلاقة السلطوية القائم على الصفات الشخصية غير العادية التي يتمتّع بها القائد. وينشأ هذا النمط من السلطة عندما يُعتقَد أنّ القائد يتمتّع بسلطات أو مواهب استثنائية تلهم التفاني والولاء، وتبثّ روحَ العزيمة والشجاعة عند الأفراد؛ وغالباً ما يظهر القادةُ الكاريزماتيون في أوقات الأزمات أو الاضطرابات الاجتماعية، ويمكنهم ممارسة نفوذ كبير على أتباعهم، والحشد، وتوجيه الرأي العام نحو أيّ من القضايا المحيطة.

تشير الكاريزما إلى نمط العلاقة السلطوية القائم على الصفات الشخصية غير العادية التي يتمتّع بها القائد

وعلى الرغم من أنّ القادة الكاريزماتيين ملهمون، إلّا أنّهم لا يعتمدون على قوّة الشخصية والخطاب فحسب، بل يُنظر إليهم أنّهم تجسيد لقضية أو مهمّة أكبر، وتتخطى جاذبيتهم التحليل السياسي العقلاني لتلمس الجوانب العاطفية والنفسية التي تجذب الشعوب/ الجمهور نحوهم. وغالباً ما يُنظر إلى القادة الكاريزماتيين مرتبطين بشعوبهم، ممثّلين ما هو مثالي في بلدهم، ومدافعين عن قيمهم وثقافتهم وتاريخهم وقضاياهم العادلة. هذا الاتصال العاطفي يمنح القادة الكاريزماتيين القدرة على تشكيل الرأي العام، وحشد الجماهير لدعم قضايا معيّنة، ودفع سياساتٍ قد تواجه مقاومةً وتحدّياتٍ في الأحوال العادية. ومع ذلك، ليست الكاريزما وحدها كافيةً لضمان النجاح السياسي، إذ غالباً ما يجمع القادة الكاريزماتيون بين هذه الصفة الفطرية وخصالٍ أخرى، مثل البراعة السياسية، واتخاذ القرارات الاستراتيجية، والقدرة على التنقل بين التحدّيات الدولية المُعقَّدة، بما يضمن سيرورةً سياسيةً ودبلوماسيةً مُحدَّدةً لصالح شعوبهم.
الكاريزما والشعبية العامة
يحظى القادة الكاريزماتيون بشعبية كبيرة داخل بلدانهم، تتجاوزها إلى الجمهور العالمي الذي يؤمن ويعتقد بالقضايا التي يديرونها. تنبع هذه الشعبية من قدرتهم على التواصل مع الجمهور بطريقة تجعلهم يشعرون بأنّهم مسموعون ومُقدَّرون، ويمكن حلّ مشكلاتهم بالطرق الناعمة والمُستدامة، أو بالقدرة على إزالة الأخطار المحيطة بهم عبر الاستخدام المنطقي للقوة، والتعامل مع العدو بما تمليه مصلحةُ الجمهور.
يدرك هؤلاء القادة الوعيَ الجماعي لأمّتهم، ويستطيعون تقديم رؤيةٍ للمستقبل تتماشى بعمق مع تطلّعات شعوبهم. وتشير الكاريزما في هذا السياق إلى تفاعلٍ مكثّفٍ بين القادة الكاريزماتيين والشراكات والهياكل الاجتماعية، التي تنطوي على تفضيلات جمعية واختيارات استراتيجية للأفراد والجماعات، بما في ذلك ترتيب العلاقات مع النُخَب السياسية والاقتصادية، والحركات السياسية المنظّمة، أو الأحزاب، والأهم من ذلك الحملات الانتخابية، وتشكيل هُويَّات سياسية جديدة من خلال السرديات الرمزية، وعدم تجاهل اللعب على وتر الصراعات الإقليمية والمشكلات العالمية العالقة من أجل استدامة الشرعية الممنوحة للقائد لدى القاعدة الجماهيرية. كان خطاب الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بتاريخ 12 مارس/ آذار 1933 عبر الإذاعة، خلال فترة الكساد الكبير، مثالاً على استغلال الكاريزما لتهدئة الجمهور وطمأنة الشارع بأنّ أزمة البنوك ومشكلات النظام البنكي في البلاد قد انتهت، وبإمكانهم حينها استعادة الثقة بالبنوك الوطنية. من خلال هذا الخطاب، تواصل روزفلت مباشرة مع المواطنين الأميركيين، بطريقة دبلوماسية وكاريزماتية للغاية، وبدأ خطابه، الذي استمع إليه حينها 60 مليون أميركي (استمر 13 دقيقة فقط)، بـ"أصدقائي، أريد أن أتكلّم لبضع دقائق مع الشعب الأميركي عن النظام البنكي"، ليضمن القرب من الشارع حول قضية الكساد الاقتصادي، التي أصبحت مُؤرِّقةً تقضّ مضاجع الجماهير. وقد مكنته قدرته على التحدّث بطريقة مألوفة ومطمئنة من أن يصبح واحداً من أكثر القادة شعبيةً في تاريخ الولايات المتّحدة، وبعدها ساهمت كاريزميّته الشخصية، إلى جانب سياساته النشطة في صفقة "New Deal"، التي أنهى خطوطها الأخيرة عام 1938 لتنقذ أميركا من شبح الانهيار الاقتصادي، وساهمت بشكل كبير في ترسيخ مكانته في قلوب الأميركيين، وفاز بعدها بثلاث دورات رئاسية متتالية.
القيادة الكاريزماتية في تشكيل السياسات الدولية
غالباً ما يتمتّع القادة الكاريزماتيون بقدرة فريدة واستثنائية على التنقل في الساحة الدولية، وتشكيل السياسة الخارجية لجماعاتهم وأحزابهم ودولهم، والتأثير في العلاقات العالمية المنوطة بهذه السياسة. تجعل جاذبية هؤلاء القادة منهم مفاوضين فعّالين، وغالباً ما يضفون بُعداً شخصياً على الدبلوماسية يمكن أن يُؤدّي إلى تحقيق نجاحاتٍ في السياسة الخارجية عندما تفشل الطرق التقليدية. وعلى هذا، أصبحت قيادة السياسة الخارجية تقوم على تحليل الخبراء السياسيين شخصيات الزعماء وخطاباتهم، وتفاصيل ظهورهم عبر الشاشات أو الفيديوهات المصوّرة، ولكنّها لم تقدّم سوى قليل من السرديات التي تدعم فهم المعنى العميق لكاريزما القادة الشموليين، وشعورهم الدائم بالرغبة في الهيمنة والسلطوية بالمعنى الغرامشي (The hegemonic order)، على حساب محافظتهم على المفهوم التقليدي للكاريزما، أي الشعور العاطفي الواضح بالانتماء. وبالنتيجة، تنتقل لدينا الكاريزما من مُجرَّد عواطف ومشاعر، ومحاولة بناء صورة رومانسية أمام الجمهور، إلى نموذجِ قيادةٍ "معاملاتية"، بمعنى أنّها تعرض حماية المجتمع الوطني ضدّ الأخطار الخارجية في مقابل منح وتوثيق امتلاكهم السلطة، وتمكّنهم من المشاركة في بناء النظم السياسية والإدارية، ولكنّها، في الوقت نفسه، تفصل قراراتها عن هموم هذا المجتمع.
تهدف السياسات الخارجية للقادة إلى إقناع الجمهور خارج الدولة بخططهم وبسردياتهم، وخاصّة الدبلوماسيين وقادة السياسة الخارجية وقادة الأحزاب (من معارضة وموالاة) في الدول الأخرى، بالأساس المنطقي وراء هذه السياسات، في حين تتجاهل إلى حدّ كبير مخاوف الجمهور المحلّي غير الخبير بدهاليز السياسة ومُخرَجات الاجتماعات الكبرى، وقرارات السلطة، ويبقى الجمهور مُغيّباً عمّا يدور في فلك السياسة والدبلوماسية وصنع القرار. والنتيجة هي قيادة السياسة الخارجية القريبة من النموذج المثالي الفيبري للسلطة القانونية العقلانية (Rational-Legal Authority)، أي الإيمان التام بـ"شرعية" أنماط القواعد المعيارية، وحقّ أولئك الذين ارتقوا إلى السلطة بموجب هذه القواعد في إصدار الأوامر، والواجب على الجمهور اتباعهم في حال السلم والحرب على حدّ سواء. ومع ارتفاع سقف التوقّعات والطلبات بين الجماهير المحلّية بأن تكون السياسة الخارجية خاضعةً للسيطرة الديمقراطية، وتزايد الدعوات إلى سياسةٍ خارجيةٍ قائمةٍ على القيم، تستفيد من مساحة العمل المتزايدة منذ نهاية الحرب الباردة، يواجه القادة الكاريزماتيون مطالبات أكثر بتفعيل ديمقراطية في صنع القرار الخارجي، وبمشاركته مع الجمهور المحلّي، وعدم اقتياده إلى مستنقعات العلاقات الخارجية الشخصية.

تخطى جاذبية القادة الكاريزماتيين التحليل السياسي العقلاني لتلمس الجوانب العاطفية، ما يمنحهم قدرة على تشكيل الرأي العام

تفرض كاريزما القادة عادةً مساراتِ حلولٍ، وأساليبَ ناعمةً للتعامل مع قضايا جوهرية وحسّاسة، كتعامل جون كينيدي مع أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بدبلوماسية عالية. ولعبت كاريزما كينيدي دوراً كبيراً في قدرته على خفض التوتّرات مع الاتحاد السوفييتي خلال واحدة من أخطر لحظات الحرب الباردة. كانت قدرته على بثّ الهدوء والحزم والقوة عاملاً رئيساً في التفاوض مع رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف، ما أدّى إلى حلّ سلمي للأزمة. كما كانت قيادته الشخصية مهمّةً في تعبئة الرأي العام الأميركي والحفاظ على الاستقرار العالمي حينها. يمثّل جون كينيدي الشخصية الكاريزماتية، سواء على مستوى الخطاب أو الإلقاء أو تمثيل الرأي العام الأميركي وتقديم المحتوى المهمّ والمُلهِم بالنسبة إليهم، والأهم من هذا الواقعية التي كان يتحدّث بها في خطاباته كلّها، كما في خطابه في جامعة رايس في مقاطعة هيوستن، حين قدّم خطاباً عن السلام في العالم يشمل النساء والرجال والأطفال والشيوخ، ولم يجادل بفكرة الصواريخ الأميركية والسلاح الأميركي الذي غزا العالم، وفنّد فكرة الحرب الشاملة التي لا تُبقي ولا تذَر. هذا الخطاب واقعي ويروق للشعب الأميركي، وإنْ كان لا يروق لبعض الأحزاب وزعماء الاقتصاد السياسي وأمراء الحروب، واستطاع كينيدي بهذا الخطاب أن يبني ما أسّسته دبلوماسيته والكاريزما السياسية التي تمتّع بها في إنهاء أزمة الصواريخ.
استطاع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، بشخصيته الكاريزماتية، نقل حزب الله من مُجرَّد حركة مقاومة إسلامية إلى حزب سياسي كامل، يدير مناطقَ وجودِ الطائفة الشيعية في لبنان، ويمتلك جناحاً عسكرياً مكّنه من صياغة مُعادلاتِ تفاهم وقواعدَ اشتباك جديدة في منطقة الشرق الأوسط، ورسم جزء لا يستهان به من ملامح السياسة الخارجية للبنان، لا سيّما بعد انتصارات حقّقها حزب الله في عامَي 2000 و2006. شكّلت خطابات حسن نصر الله في حرب تمّوز/ يوليو (2006) ملجأً لجمهور الحزب، ودافعاً للثقة بالنفس، لا سيّما أنّه كان يُلقِي خطابات واقعيةٍ أثناء تنفيذ عناصر الحزب عمليات حقيقية ضدّ الجيش الإسرائيلي. كان خطاب نصر الله عبر قناة المنار خلال عملية الطّود الأول (14 يوليو 2006)، التي كان هدفها إغراق البارجة الحربية الإسرائيلية "ساعر - 5" لحظةً حماسيةً وحاسمةً لدى جمهور الحزب في لبنان والمنطقة، لا سيّما أنّ قائداً كاريزماتياً مثل نصر الله يتحدّث من موقع قوة حينها عن مفاجآت رآها المتابعون أمام أعينهم، ورأوا نتيجة العملية في إصابة البارجة المذكورة. شكّلت شخصيةُ نصر الله الكاريزماتية المثيرة للجدل، لا سيّما بعد تدخّل الحزب العنيف في الحرب في سورية بعد عام 2012، سياسةَ الحزب الحديثة وتفاصيلَ تحالفاته، التي كان يُعلنها في خطاباته الحماسية. وإن كانت في خطاباته تهديدات وقوّة وعنف، إلّا أنّ الكاريزما التي بناها أسّست ثلاث عقود من القيادة السياسية والعسكرية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، استطاع خلالها نقل الحزب وأنصاره إلى مستوىً عالٍ من الثقة والاعتداد بممتلكات الحزب والإرث الذي خلّده أسلاف نصر الله، وحتّى إرث نصر الله في حدّ ذاته بعدما اغتاله الجيش الإسرائيلي في سبتمبر/ أيلول 2024.

5050C93B-6DCD-4591-A085-582E58AAC0F8
5050C93B-6DCD-4591-A085-582E58AAC0F8
مهيب الرفاعي

كاتب وباحث سوري في معهد الدوحة للدراسات العليا

مهيب الرفاعي