القضية 40 ألف شهيد... لا ستة أسرى قتلى
عندما يتحدّث رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بوقاحةِ المتغطرس، ويقول إنّه لن يرحل من محور فيلادلفي، الشريط الحدودي المصري الفلسطيني الممتدّ بطول 14 كيلو متراً، فإنّ الرسالة هنا لا تخصّ فلسطين أو غزّة، وإنّما يعني بها في الأساس مصر.
هنا أنت بصددِ لصٍّ متبجّحٍ على ثقةٍ بأنّ ردّة فعلِ الطرف المعني بالرسالة لن تصل إلى حدِّ إشعاره بالخوف والخطر، وهنا الكارثة الحقيقيّة: شخصٌ يحتلّ مساحة من أرضك ويغرس أعلامه فوقها، ويقول لا خروج من هذه المساحة... وضعية ليس لها من توصيفٍ سوى انتهاك للسيادة ومساس بالكبرياء واستخفاف بالكرامة، فضلاً عن وضع الأمن القومي لصاحب الأرض المُغتصبة في مهبِّ الخط، هنا لن تجدي بيانات الغضب الدبلوماسي ولن تكون أشدّ العبارات رادعاً مُحتملاً يثني المحتل عن احتلاله.
ليس المطلوب من القاهرة التحرّك دفاعاً عن غزّة ووقفاً للعدوان الصهيوني عليها، فقد بُحّت الأصوات 11 شهراً تطلب ذلك، من دون أن يكون ردٌّ إلّا التشبّث بوساطةٍ ترعاها أميركا لم تحقّق شيئاً سوى منح المعتدي إحساساً بأنّه الأعلى الذي يطلب كلٌّ رضاه عن المعروض عليه من صفقاتٍ ومزايا مقابل وقف عدوانه.
بات المطلوب تحرّكاً مصرياً دفاعاً عن مصر، شريطة أن يتحرّر هذا التحرّك من أسر الكلام والهمهمة الدبلوماسية الغاضبة، ليرقى إلى مستوى الفعل المصري الذي يجري ترويجه على أوسع نطاقٍ عند العمق الجغرافي الجنوبي، وبالتحديد هناك في الصومال، على مقربةٍ من الخصم الإثيوبي الذي يُهيمن على نهر النيل وينتهك سيادة مصر المائية ويهدّدها بالعطش.
سنفترض أنّ كل هذا النفخ في أبواق السوشيال ميديا عن محاصرةِ مصر إثيوبيا من جهةِ الصومال حقيقيٌّ، وأنّ القاهرة أرسلت نخبة قوّاتها العسكريّة إلى القرن الأفريقي لردع الصّلف المائي الإثيوبي، ونسأل: أليس الاحتلال الفعلي للأرض مُستحقاً للتحرّك بغضب أكثر من فرضيّة هيمنة الجانب الإثيوبي على مياه النيل عَنوةً؟
على أنّ ثمّة أسئلة أخرى تفرض نفسها: أليست فلسطين أقرب من الصومال؟ أليست عضواً في جامعة الدول العربيّة مثلها مثل الصومال التي تحرّكوا من أجلها عسكرياً لردع التدخل الإثيوبي في شؤونها؟كيف وصلنا إلى هنا، كيف لم تعدِ القاهرة تتحمّل تظاهرة شعبيّة من أجل حريّة غزّة، لا بل من أجل تحرير أرضٍ مصريّة، محور فيلاديلفي، من مغتصبها، وكيف بات مدخل الوسطاء إلى التدخّل بالوساطة لوقف القتال هو حفنة من الأسرى الصهاينة، وليس أربعين ألف شهيد فلسطيني قتلهم الاحتلال الإسرائيلي خلال 11 شهراً، ولا يزال عدّاد القتل يقفز بالعشرات يومياً؟.
مخجلٌ أنّ الآمال العربيّة في وقف العدوان باتتْ مُعلّقة بعائلاتِ ستة أسرى من المحتلين، وأنّ الإعلام العربي محتشدٌ بكامل طاقته لتغطية تظاهرات المحتلين الإسرائيليين ضدَّ حكّام إسرائيل، من دون أن يبقى مسموحاً في معظم عواصم العرب التظاهر من أجل دماء أربعين ألف شهيد وحياة أكثر من مليون مواطن فلسطيني مشرّد.
في عدواناتٍ صهيونيّة سابقة على مدار السنوات العشرين الماضية كان الحضور العربي، رسمياً وشعبياً، عنصراً في معادلة الصراع، لمصلحة فلسطين بالطبع، فما الذي أوصلنا إلى مرحلةِ تقديس الوساطة وعبادة الصفقة؟ ما الذي تغيّر؟ هل ازداد الاحتلال قوّة أم أنّ العرب ازدادوا ضعفاً؟
في عدوان 2008 كانت مصر تعرف بوصلتها، ويدرك شعبها ونخبتها الفرق بين المعركة الحقيقيّة المحترمة والاستعراضاتِ المُبتذلة، وكانت هناك نخب سياسية تؤدّي واجبها، وهي على استعداد لدفع الثمن، من هؤلاء كان قاضي قضاة الإسكندرية المستشار محمود الخضيري الذي رحل السبت الماضي، وهو في العقد التاسع، بعد أن أمضى معظم سنواته الأخيرة مسجوناً في زنزانةٍ يتعرّض فيها لكلِّ صنوف التنكيل والإهانة.
في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2008 كان الخضيرى، نائب رئيس محكمة النقض، رئيساً للجنة الشعبية لفكِّ الحصار عن غزّة، يجوب محافظات مصر ويلاحق الحكومة بالدعاوى القضائيّة كي تسمحَ بتسيير قوافل شعبيّة لمناصرة الشعب الفلسطيني المحاصر. وفي مؤتمر "فك الحصار عن غزّة"، في مدينة كفر الدوار في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2008، تكلّم الخضيري عن قيام اللجنة بمحاولة ثالثة لتنظيم قافلة لفكّ الحصار عن قطاع غزّة، متوقّعاً "تدخل الأمن" لمنعها قبل وصولها إلى الحدود، رغم الحكم القضائي بأحقيّة المواطن المصري في التحرّك بحريّةٍ داخل بلده، معلناً "نحتاج إلى تجمّع 50 ألف مواطن، حتى يجبر الحكومة على توصيل المعونات إلى غزّة، ويثنيها عن موقفها، الصلف والمعاند، الذى شوّه سمعة مصر".
الآن بات منتهى الأمل أن تغضب القاهرة من أجل مصر، لا من أجل غزّة، لكنها، من أسف، تبدو وكأنّها قرّرت خذلان الاثنين.