القدس أولاً وأخيراً
القدس مفجّر كل الانتفاضات الفلسطينية في العقدين الأخيرين، وعقدة جميع مشاريع الحلول التي جرى طرحها منذ حرب عام 1967. وصار ثابتا أن المدينة المقدسة عصيةٌ على المخطّطات الإسرائيلية في الاستيطان والتهويد وسرقة الأراضي. ومنذ أعلن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في نهاية 2017، القدس عاصمة لإسرائيل، انتقل الصراع على المدينة إلى مستوى جديد، تمثل في تكثيف إسرائيل حملات الاستيطان والتهويد. وشهد حي الشيخ جرّاح في البلدة القديمة حملاتٍ استيطانية واسعة، بغرض السيطرة عليه وتهجير سكانه الأصليين، وكان بمثابة الشرارة التي أشعلت الهبّة الأخيرة، بعد أن حاولت مجموعة صهيونية فرض قوانين على مرتادي الصلاة في المسجد الأقصى.
الهبّة التي تفجرت الأسبوع الماضي كانت قوية، واتّسمت بتنظيم عال، وتمثلت في جرأة مجموعات شبابية على القيام بعمليات تصدٍّ ومواجهاتٍ مباشرة مع المستوطنين وقوات الشرطة الإسرائيلية، وشهدت ليلة الخميس، في الثالث والعشرين من إبريل/ نيسان الحالي، صداماتٍ عنيفةً، أسفرت عن وقوع حوالي مائة جريح بين الفلسطينيين و20 من الشرطة الإسرائيلية، وأدّى ذلك إلى إلغاء الحكومة الإسرائيلية قرار إغلاق باب العامود، ما يعني التراجع خطوة إلى الوراء. ويعود السبب إلى تصميم أهالي القدس على الوقوف في وجه المخطط الاستيطاني، واستشعار الحكومة الإسرائيلية أن الهبّة تتجه كي تتطور إلى انتفاضة شاملة، تمتد حتى الداخل الفلسطيني. وبدأت قوى سياسية بتنظيم نفسها بصورة ملموسة، ووصلت مجموعات للصلاة في الأقصى، والمشاركة في الحراك ضد مخطط الاستيطان والتهويد.
وعلى صلة بهبّة القدس، أجّل رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، زيارة إلى واشنطن كانت مقرّرة لمناقشة مشروع الاتفاق النووي الجديد مع إيران، والذي توليه تل أبيب اهتماما كبيرا. ونظرا إلى تطور الموقف في القدس، وتحريك جبهة غزة، تأجلت الزيارة. وترافق ذلك مع وضع صعب يعيشه بنيامين نتنياهو الذي يواجه استعصاءً فعليا يقف في طريقه إلى تشكيل حكومة جديدة، ومع اقتراب مهلة التكليف الحكومي من نهايتها يكبر احتمال الذهاب نحو الانتخابات التشريعية الخامسة في غضون عامين. وتعكس أجواء القلق داخل الحكومة الإسرائيلية إدراكها أن هبّة القدس مرشّحة لإعادة طرح ملف المدينة في توقيتٍ حسّاس، وهو موسم الانتخابات الفلسطينية، الرئاسية والتشريعية، وما زاد الموقف تعقيدا أن إسرائيل وضعت فيتو على مشاركة القدس في الانتخابات، وهي تفضّل عدم مواجهة هذه التجربة التي لن تكون في صالحها في جميع الأحوال، لاسيما وأنها لمست، في الآونة الأخيرة، أن هناك أجواء في القدس وخارجها، تؤشّر إلى عزيمة على إجراء الانتخابات، وتحويلها إلى معركة مع الاحتلال من حول عروبة القدس، وإسقاط مشاريع الاستيطان والتهويد. ومن الواضح أن هذه المسألة مرهونة بحسابات السلطة الفلسطينية تجاه هذا الاستحقاق الذي يتعارض مع مصالحها، بعد أن تشكّلت جبهة معارضة قوية بقيادة الأسير مروان البرغوثي، تهدّد بقلب الطاولة وطي صفحة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. ومن هنا جاء التفكير في تأجيل الانتخابات.
وتأتي هبّة القدس في ظروف عربية مختلفة في ما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، ويتمثل ذلك في التحالف الذي أقامته أبوظبي مع إسرائيل، وما تلاه من خطوات تطبيعٍ مع كل من البحرين والسودان والمغرب. وساد الظن أن محاولة التفاف أبوظبي على فلسطين والعالم العربي سينقل المسألة الفلسطينية إلى مستوى جديد من التراجع، ولكن هبّة القدس تقدّم درسا مختلفا مفاده بأن ميزان القوى الفعلي يصنعه الفلسطيني الذي يقيم على أرضه. وهذه قاعدة الصراع الأساسية منذ عام 1948، والتي تحاول إسرائيل تجاوزها وخلق واقع يساعدها في محو فلسطين. وأن يكون عنوان الهبّة الأخيرة هو هوية القدس، فهذا يعني أن الملف سوف يظل مفتوحا طالما أن هناك فلسطينيا ثابتا على أرضه وحقه الذي لا يستطيع أحد إسقاطه مهما بلغ من القوة.