القانون لا يعرف "حنان"

القانون لا يعرف "حنان"

25 ابريل 2023
+ الخط -

أمّ، شابة، مات زوجها، وتركها مع طفليْن، تصارع أمواج الحياة، ذهبت الوصاية على الأولاد إلى جدّهم لأبيهم، وفق القانون المصري، واستلم عمّ الأولاد مركب الزوج الراحل، ونهب إيراده. انتزعت الأم مركب زوجها بمساعدة رجاله، وغادرت الإسكندرية إلى مدينةٍ ساحليةٍ أخرى (دمياط)، وبدأت، بصعوبةٍ، حياة جديدة، لتربية أولادها وتمكينهم من إرث أبيهم، لتجد نفسَها في مواجهاتٍ، لا تنتهي، تجّار يحاربونها في رزقها... وعمّال يرفضون رئاسة "حرمة"... وصاحب بيت منزعج من تأجير شقّته لسيدة لا رجل معها، ولا بطاقة، ومدرسة حكومية ترفض قبول ابنها، لأن جدّه، والوصي عليه، غير موجود. ... أزمات لا تنتهي، واجهتها حنان، (منى زكي)، في أحداث مسلسل مهم عُرض في شهر رمضان، "تحت الوصاية".
هل يمكن معالجة الشأن المصري من دون الغرق في "المأساة"؟ مستحيل، ولو حاصرك "غفر السواحل"، من كل ناحية، لا صيد في بحار المصريين من دون الدخول في "الغميق"، وليس في العمق، هنا والآن، سوى المأساة، مأساة مصر أن مأساتها "عميقة"، لا تبدو على السطح، فيجزع لها "الخلق"، تتجاوَز المأساة المصرية نظيراتها العربية، كمّا وكيفا، لكنها لا تبدو كذلك، مأساة مختبئة وسط الجموع، تائهة في التفاصيل اليومية، تذوب في أصحابها، مثل ملح البحر، تسكنهم، تحلّ فيهم، تتّحد بهم، حتى لا يُعرف المصري نفسه من دون مأساته، يتجاوز التأقلم معها إلى فلسفتها، شرعيتها، تعظيمها بوصفها، في ذاتها، قيمة، قيمة وطنية، شعبية، دينية، ولا يعني التمرّد على المأساة، أو محاولة تجاوزها، سوى الجحود والنكران والكفر بالقيم "الأصيلة" التي تربّينا عليها. "من لا مأساة له موصوم".
من هنا، يمكننا اعتبار مسلسل "تحت الوصاية" فعلاً ثورياً، يتجاوز "رقيباً" مشغولاً بالسطح الساخن، كما يتجاوز معالجة قانون الوصاية في مصر، إلى غيره من تفاصيل "المأساة المصرية" المرعبة، شاء صنّاعه ذلك، أم أبوه. قصدوه، تمرّداً ذكياً على سلطة الرقيب الأمنية، أم لم يقصدوه، فالمأساة في التفاصيل، ومفروضة فرضا على كل من يقترب بـ "مهنية"، ولا سبيل إلى تفاديها. حاولت "حنان" أن تنزع حياة كريمة، ومستحقّة، لأولادها، ووقفت في الحلقة الأخيرة من المسلسل تتساءل، في حيرة، عن سبب فشلها، وما الخطأ الذي ارتكبته؟ وتبث القاضي المصري "العادل" مخاوفها عن مستقبل أولادها: ليجيبها ممثل القانون بأن "القانون" لا علاقة له بذلك. لا يعرف القانون المصري "حنان"، أي حنان، أي امرأة أو رجل، مصري، عادي، لا يؤمن بهم، ولا يؤَمّن لهم حيواتهم، ولا يُخاطبهم، وبالأحرى لا يراهم.
يتصوّر بعضنا، أحيانا، أن أحد وجوه المشكل في مصر غياب "سلطة القانون"، فيما تُخبرنا حنان، نيابة عن ملايين غيرها، أنه "لا قانون" "في مصر من أجلهم"، سواء كانت سلطته حاضرة أم غائبة، فهي، في الأخير، في خدمة الحاكم، وتحت وصايته، قانون لحماية من يحكُم، جيش لحماية من يحكُم، شرطة لحماية من يحكُم، قيم وعادات وتقاليد وخطابات دينية وسياسية وإعلامية لحماية من يحكُم، دولة، بأسرها، لمن يحكُم، فهل من مقابل؟ الإجابة، القاطعة، لا، لا مقابل، الدولة لها كل شيء، وليس عليها أي شيء... أين كانت الدولة حين تعرّضت حنان للسرقة؟ أين كانت الدولة حين احتاج ابنها إلى إجراء عملية جراحية كي لا يفقد بصرَه؟ أين كانت الدولة حين حاولت حنان استرداد أبسط حقوقها، فاضطرّت للسرقة (سرقة حقّها)؟ أين كانت الدولة حين طاردها عمّ أولادها، وسَجَن أختها، زوراً؟ أين كانت الدولة حين هاجمها عمّ أولادها في مركبها، وقطع عليها طريق الصيد؟ أين كانت الدولة حين هاجمها عمّ أولادها وقتل أهم عمّالها عمّ ربيع؟ أين كانت الدولة حين حاربتها عصابات السوق، حين تعفّنت بضاعتها، بفعل فاعل؟ أين كانت الدولة حين تعرّضت حنان للتحرّش.. للاغتصاب.. للطعن في شرفها.. لحرق مركبها؟ حضرت الدولة بعد أن فقدت حنان كل شيء، لا لشيء، سوى أن تُعاقبها، بالقانون، على مجرّد "المحاولة"، والحلم، وتسترد وصايتها.