القاضي المائل والبوب المغرد
من المفترض نظرياً أن القاضي هو ميزان العدل، ولذلك، يرمز للعدالة دائماً بالميزان، ومن ثم لا يجوز أن يميل القاضي، هنا أو هناك، وأن يكون ميله للحق فقط، وليس لأشخاص.
وينبغي، نظرياً وعملياً أن القاضي الذي يحكم بين الخصوم لا بد أن يكون متجرداً من الهوى الشخصي، والانحياز الذاتي، وإن كانت له انحيازات وميول وأهواء، فيحب أن يخلعها جميعاً ويتجرد منها فور ارتدائه زي القضاء، بحيث تبقى هذه المشاعر تحت جلده، لا يعبر عنها، ولا يكشفها للعامة.
غير أن قضاة هذا الزمان صاروا يجاهرون بالحب والكراهية، لهذا الطرف أو ذاك، سواء على صفحات الدردشة الاجتماعية، أو عبر الصحف والفضائيات، ومن هؤلاء القاضي محمد ناجي شحاتة الذي أعلن امتعاضه، وهو جالس على منصة العدل من "أشكال" النشطاء المحبوسين و"خبط" الشاب أحمد دومة حكماً بالسجن ثلاث سنوات على الهواء مباشرة، لأن الأخير تجرأ وسأله سؤالاً عن صفحة فيسبوك باسمه، وتحمل موقفاً سياسياً.
استشاط القاضي غضباً وعاقبه بالسجن، باعتبار أن في السؤال إهانة للقضاء، غير أن القاضي نفسه تحدث بعد أقل من 24 ساعة لصحيفة نشرت حواراً مسجلاً معه، أعلن فيه انتماءه السياسي وانحيازه ضد ثورة يناير ورموزها، وعبر عن كراهيته الإخوان المسلمين، وغيرهم من معارضي الانقلاب، علماً بأن أكثر من أربعين ألفاً منهم خلف الأسوار، وقد يقفون بين يدي هذا القاضي طلباً للحق والعدل.
هذا "القاضي المائل"، كما وصف نفسه في الحوار المنشور، حين ردّ على سؤال بالقول إنه "كمواطن يميل للرئيس عبد الفتاح السيسي"، ومعلوم طبعاً أن كل الذين يمثلون أمام هذا القاضي من معارضي عبد الفتاح السيسي، ومناهضي انقلابه العسكري، فكيف يكون هذا حكماً عدلاً ومنصفاً، إذا كان يضمر مشاعر سلبية مسبقة ضد خصوم الشخص الذي يعلن ميله إليه؟
ولا يكتفي الرجل بذلك، بل يسلك وكأنه كاسحة ألغام متحركة، يستفزها كل اسم ينتمي لثورة 25 يناير، فهو يتحدث بكل ازدراء وإهانة عن أسماء مثل محمد البرادعي"البردعة"، كما يقول القاضي الجليل المهذب، وعمرو حمزاوي وآخرين، وكل هؤلاء، بالطبع، معرضون للوقوف أمامه كمتهمين، فكيف سيتخلص من مشاعره المسبقة ضدهم؟
وعلى ذكر الدكتور محمد البرادعي، فقد التقطت أجهزة رصد الزلازل ثانية تغريدات الرجل، خلال أقل من شهر، وهو من هو في عالم التغريد، قبل أن يشارك في الانقلاب العسكري، قبل عام ونصف العام. لكن، وكما هو متوقع جاءت تغريدة البرادعي، هذه المرة أيضاً، خارج السرب، لمناسبة صدور تقرير الكونجرس الأميركي عن استخدام وكالة المخابرات (سي آي ايه) أنظمة عربية في ممارسة التعذيب ضد سجناء إسلاميين.
البرادعي تفاعل مع التقرير وغرد قائلاً "القيم الإنسانية على المحك"، وهذا كلام طيب وعظيم، لو لم يكن الرجل الذي اعتبرناه يوماً ضميراً للثورة والإنسانية قد سقط في جب الكيل بمكيالين، فيصمت عن انتقاد التعذيب في الداخل، وينتفض ضد التعذيب المستورد من الخارج.
لقد رفض البرادعي الإدلاء بشهادته، في أثناء إعداد التقرير الخاص بمذبحة فض اعتصام رابعة، مكتفياً بالقول إن شهادته لن تقدم أو تؤخر، على الرغم من أنه يعلم جيداً أن شهادته هو تحديداً تؤثر، كونه استقال عقب وقوع الجريمة، ويعلم بالطبع أكثر من غيره حجمها وملابساتها.
إن سكوت البرادعي على فظائع الداخل، وانفعاله لانتهاكات الخارج، بدا مثيراً لغضب أقرب الناس إليه، ويكفي أن تعلم أن الناشط صفوان محمد، صاحب أول توكيل للبرادعي لقيادة المعارضة ضد حسني مبارك في 2009، استوقفته هذه الازدواجية من "البوب" كما يحلو للشباب تسمية البرادعي.
ويبقى السؤال الذي طرحته على الرجل قبل ثورة يناير: إن العالم كله يدرك أهميته فهل يدرك البرادعي أنه رجل مهم .. بل مهم جداً.