الفوز بميدالية الشاي
على منصّة التتويج، عندما تنحني الحقول الخضراء لتطوّق عنق الثائر بميدالية الشاي الذهبية، التي اختطفها الغزاة عقودًا طويلة، آنذاك تستبدل الشمس ضوءها بسمرة الوجوه التي انتصرت على طغاتها. هناك؛ حيث يفرّ الرئيس ويبقى الشعب، يصبح لميدالية الشاي نكهة أخرى مغايرة للدمغة التي تطبعها الشركات العابرة للقارّات على العبوات المعدّة للتصدير خارج الجزيرة الصغيرة التي سمّاها السَّلف سيلان، والخلف سريلانكا، فقد أصبح للشاي طعم الثورة، ونكهة التمرّد.
لم نكن نستورد من سريلانكا غير الشاي والخادمات، ولم نكن ملمّين بتاريخها كثيرًا، على خلاف الغرب الذي يتشمّم رائحة الثروات من آلاف الأميال، فقد أدرك قيمة موقعها الاستراتيجي ملتقى للطرق البحرية الرئيسية، فجعلها قاعدة محورية لقوات الحلفاء في الحرب ضد اليابان، وعانت من استعمار البرتغال وهولندا بداية القرن السادس عشر، ثم خضعت لسيطرة الإمبراطورية البريطانية في القرن الثامن عشر، وظلّت كذلك إلى حين استقلالها الصوري سنة 1948.
ولأن لعاب المستعمر على ثروات هذه الجزيرة الساحرة لم يجفّ، على الرغم من رحيله، فقد ترك له أذنابًا يسهلون له عمليات النهب غير المباشر لهذه الثروات، وفي مقدمتها الشاي، بالطبع، فأصبحت، بحق، مستعمرة للشاي، بفضل الشركات متعدّدة الجنسية التي راحت تستولي على حقول هذه السلعة الثمينة بأموالها القذرة، وتسخّر الأيدي العاملة الفقيرة من شعب الجزيرة في إنتاجه، لقاء رشوة حكّامها بجزء زهيد من عوائده، ويقال إن حقول الشاي هناك استهلكت عرق مليون "خادم" سريلانكي، في دولة تعدّ رابع منتج لهذه السلعة.
ولتعزيز سيطرتها غير المباشرة على الجزيرة، لجأت هذه الشركات، بمعاونة دولها، وتواطؤ حكام صغار، على إشعال الفتن في أرجائها، وكان أشدّها دموية الحرب الأهلية التي استعرت بين متمرّدي نمور التاميل والجيش عقودًا طويلة، والتي أزهقت أرواح الملايين، وحالت دون لحاق الشعب السريلانكي بأسباب التطور والحداثة.
أما "السلعة" الأخرى التي سال عليها لعاب دول أخرى، ومنها دول عربية، فتمثّلت بالعمالة السريلانكية، سيّما خادمات البيوت، فقد استقرّ في قناعاتنا أن هذه الدولة لا تصلح إلا لتصدير "الخدم" وحسب، فنشأت مكاتب استقدام في بلداننا لهذه الغاية، وافتتحت لها فروعًا في العاصمة كولمبو، ودارت عجلة استيراد وحشية تلامس حدود الاتجار بالبشر من عمال وعاملات، بأجور زهيدة لقاء أعمال شاقّة، عدا أساليب التعامل غير الإنسانية في بيوت كثيرة مع هذه العمالة، والنظرة الدونية التي كانت تسدّد إليها.
في المحصلة، لم يكن أحدٌ يتخيل أن تشهد جزيرة الاستبداد هذه أي نوع من الثورة أو التمرّد من شعبها القابل للاستعباد والتصدير، حتى صدمتنا الأنباء أخيرا عن ثورة الشعب السيلاني، واقتحامه القصر الرئاسي، وما تلا ذلك من ذعر الأرنب القابع فيه، وفراره من البلاد كلّها على متن طائرة عسكرية.
ربما كان صعبًا على دول "العنجهيات" أن تعيد النظر في فلسفة مكاتب استقدام العمالة كلها بعد الذي حدث في سريلانكا، ولربما كان أجدى، مثلًا، قلب المعادلة من أساسها، إما بتغيير المسمّى الأول إلى "مكاتب استقدام الثوار" بدل العمّال، أو بافتتاح مكاتب تصدير عمالة أجنبية إلى تلك الجزيرة، على اعتبار أن سكانها أصبحوا أسيادًا لا خدمًا للآخرين، بفضل ثورتهم الجميلة.
وفي الحالين، نحتاج، نحن العرب خصوصًا، إلى "ثوار" من هذا الطراز الذي نفتقده؛ لأننا نكتفي بقطع نصف طريق التمرّد فقط، فلا نقتحم قصورًا رئاسية، ولا مقارّ حكومية، وإن فعلنا فإننا نستبدل طاغية بآخر أشد استبدادًا وفتكًا، ثم نعض أصابعنا ندمًا على خطيئتنا باقتراف "التمرّد". أما على ضفة الشاي، فعلينا أن نتعلم أن الفرق بين السيد والخادم لا تحدّده الثروات، بل الثورات، وقدرة المرء على أن يكون حرًّا، فكم من خادم سيد، وكم من سيد خادم.
عمومًا، أقترح على ثوار سريلانكا، أن يكون أول مرسوم في العهد الجديد، منع تصدير ميداليات الشاي إلا لمن يستحقها فقط.