الفلسفة الأخلاقية الغربية .. العجز الذاتي
استيقظ العالم على حرب جديدة للحداثة المادية، عبر بث وخلق الجنسانية المتطرّفة، وخُلقت في الضمير الشبابي العالمي نرجسية لا تراعي أي روابط أخلاقية اجتماعية، وإن تبنّت في حياتها بعض المطالب الحقوقية للأقليات، بحكم أن الجندرية الجنسانية تضع تيارها ضمن الأقليات، ونلاحظ هنا فكرة الكراهية والبأس التي تتشكل من هذه النرجسية القاسية ضد الوالدين، أو بين الزوج والزوجة، مقابل تحويلها نحو الحيوانات الأليفة، في حين لا يُقدّم الفرد لوالديه العجزة 10% من اهتمامه بالحيوان الأليف الذي تفرض المعرفة الإسلامية احترام حقوقه، وعدم الإساءة له، لكن من دون أن يكون ذلك على حساب الكرامة الإنسانية الاجتماعية، وحياة الفرد الإنسان، ونصيبه من الحب الطبيعي والمتعة التي خُلقت في أصل هذه الطهرانية البيئية.
لنلاحظ هنا التناقض المنهجي، في اعتناء الفلسفة الأخلاقية بالبيئة المادية الطبيعية التي دمرتها الحداثة، أو أحدثت فيها جروحاً ونزفاً كبيراً، وزيادة فرص الموت، والتردّي الصحي، وتلويث بيئة النبات وبيئة الحيوان والإنسان، وبين موقف هذه الفلسفة من البيئة الاجتماعية التي ورثها الإنسان في تسلسل طبيعي، وتثبتها العلوم البحتة، وتاريخ الوجود الإنساني نفسه، حين تُقرأ وتتابع دون ملاحقة أو قمع.
هذه البيئة لا حظّ لها يُذكر من العناية في الفلسفة الأخلاقية للغرب الحديث، على الرغم من نقده البيئي، وهنا مجموعة افتراضية حدّدها وائل حلاق (في كتابه "قصور الاستشراق")، في التدليل على العلاقة البيئية بالمنظومة المعرفية للغرب:
أولا، إن الأزمة البيئية تستوطن النظام الحديث نفسه الذي أنتجها، فهي أزمة نظام لا عرض. ثانياً هذا النظام الذي وظّف الرأسمالية والتكنولوجيا والصناعة والقانون، نظَّم عملها كإطار معرفي عقلاني، (أي عبر تقديس مطلق) للحداثة. ثالثا، "قُدمت" هذه المنظومة في "كليات تفسيراتها العلمية" كطريقة واعية ومتناسقة للعيش في العالم وتفسيره. (على الرغم من كل التدمير الذي أحدثته). رابعا، "وبالطبع"، تفتقد هذه المنظومة المعرفية القيود الأخلاقية اللازمة، للتعامل مع الميول التدميرية ومشكلاتها البيئية والاجتماعية، فضلاً عن تجنبها في الأصل.
البيئة الاجتماعية لا حظّ لها يُذكر من العناية في الفلسفة الأخلاقية للغرب الحديث ، على الرغم من نقده البيئي
هذه الفرضيات الدقيقة المستقاة من تاريخ الحياة المعاصرة للعالم الحداثي، ومن نظريات الفلسفة والنطاق المركزي للأكاديمية الغربية، وعلاقتها بالقوة الرأسمالية، تمثل قاعدةً على الأقل للبحث عن أسئلة الفشل الكُبرى، وأهم من ذلك زعم عقلانية هذه الأسس، ومن ثم فرض تفسير الحداثة على العالم. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية التي ذكرها حلاق هي محل اهتمام من تيارات عديدة للفلسفة الأخلاقية، إلا أنها تمثل حالة منظور جزئي أعور، وكأننا نعود إلى وصف العَمَى المعرفي، وهذا العَمَى لا يتيح فرصة إعادة النظر في الإخلال الضخم في البيئة الاجتماعية. وهذا الإخلال كذلك يقوم على أسس هذه المعادلة المعرفية التي أنتجتها الحياة الغربية.
يستدل حلّاق، بمقولة "التصنع الأخلاقي" لرينيه غينون الذي يشير بهذا الوصف إلى مرجعية الأسس الأخلاقية التي قننتها المعرفة الحداثية. وهذا التنظيم الإداري الأخلاقي والقانوني لا تُرفض بالضرورة كل جدولته السلوكية، وإنما المشكلة في العمق الذي بُني عليه، وهو نظرة الفرد المادي، لا الإنسان الأخلاقي، والذي يحترم البيئة بموجب استدعاء الضمير والوجدان، والمراقبة الذاتية له، والتي لا يُمكن أن تصنع من دون الإيمان بالروح، ومراقبة الخالق الأعلى، فهو سيظل مرتبطاً بتقدير المصلحة المادية، فالحريات والقانون صُنعا من المصدر ذاته. وحين يطرأ صراعٌ من داخل تيارات المجتمع، يعجز القانون عن تنظيم الحقوق، كون أن في ضمير الفرد أُعليت النرجسية الشخصية، والتي أُسِّست، أصلاً، بناء على فكرة الحداثة التي تميّز الإنسان عن الإنسان الآخر.
الأزمة البيئية تستوطن النظام الحديث نفسه الذي أنتجها، فهي أزمة نظام لا عرض
البيئة ليست بيئة تنتخبها الفلسفة الليبرالية، ولا حركة الخضر، حين تفصل جسم المادة عن أخلاقيات الإنسان التي دمرتها الحداثة، ومن ثم لن تقدّم فارقاً نوعياً، وإن نجحت بعض جهودها، في تخفيف سلوكيات محدّدة وأضرار نسبية، لكن الرأسمالية تعود لتسرق حق البيئة من النافذة الأخرى.
يُعيد حلاق التذكير بأن هذا النقد الفرعي لمآلات البيئة تحت مشروع الحداثة، في الحقيقة، يعود إلى العمل على تبرئة الأساس الأخلاقي الذي زعم العقلانية المطلقة لمعرفته، ويتهم حلاق إدوارد سعيد في تناوله الاستشراق، مشيراً إلى هذه الظاهرة، التي برزت في الفيلسوف البريطاني، جيرمي بنتام، (1748-1832 وضع خطة للحكومة البريطانية لمستعمرة الساحل لأستراليا)، والفيلسوف والاقتصادي البريطاني، جون ستيوارت (تأثر بجيرمي بنتام 1806 – 1873)، وآخرين.
يُعيد وائل حلاق التذكير بأن النقد الفرعي لمآلات البيئة تحت مشروع الحداثة، في الحقيقة، يعود إلى العمل على تبرئة الأساس الأخلاقي الذي زعم العقلانية المطلقة لمعرفته
ونحن اليوم بحاجة إلى التذكير أيضاً، بالمنجزات التشريعية أو القانونية الأخلاقية التي نجح في تحريرها أولئك الفلاسفة، ولكن مأزق الأساس مستمر. ولنلاحظ هنا مقولة جيرمي بنتام "أن السعادة المطلقة لأكبر عدد من الأشخاص هي مقياس الصواب والخطأ". أين يمكن أن نحدّد الجغرافيا الاجتماعية والسياسية لأولئك الأشخاص؟ ماذا عن الشخص الذي استهدفه مشروع بتنام في مستعمرة بريطانيا؟ ما هي معايير السعادة الأخرى؟ لماذا أصيب بضيق نفسي له علاقة بالإلحاد؟ لماذا توسّل في صراخه آخر أيامه؟ ولم يساهم إلحاده في العبور السعيد إلى آخر لحظات الحياة؟ هل يكفي أن يكون بتنام قد ترك جثمانه للتشريح ورأسه المحنط حسب وصيته لكي يحضر اجتماعات جامعة لندن بعد وفاته؟ ولم تستطع الجامعة إبقاء هذا الحضور، خشية تعرُّض الجمجمة للحشرات.
لا نذكر ذلك مطلقاً للتعريض بشخصيات الفلسفة الغربية، والآباء الرعاة لمذاهب الفلسفة المادية الحديثة. ولكن أيضاً، لا يمكن أن نلغي سوسيولوجيا المؤلف، في بنية هذه الأفكار، فأفكاره كانت بناءً على تصوّره، وقدّم في هذا التصور منظومة قواعد، فيما تعرّضت بعض هذه الأسس في التصوّر لاختبار صعب. لم يصمد فيها في حياته، فضلاً عن موقفه من سحق الآخر الذي مثَّل مصدراً آلياً لسعادته، سواء في المستعمرات وسكانها الأصليين، أو في حالة ميشيل فوكو مع ذلك الطفل الذي طالب أن تشرع السادية الجنسية معه.