الفلسطيني جان جينيه
"اعتراني ما يُشبه نوبةَ جنون مباغت وخفيف. قلتُ في نفسي: إنّهم لن يحصلوا قطّ على ما يكفي من الألواح والنّجّارين لصُنع النعوش. فكم يلزم من الأمتار لمثل هذا العدد الكبير من الموتى؟ وكم من الصلوات؟". "أحسستُ حينها أنّني صرتُ فلسطينياً وأنني أكره إسرائيل". هذا ما كتبه جان جينيه، في كُتيّبه "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا".
عُرف جينيه، الكاتب الفرنسي الشهير، بينَ الكتّاب بحياة الصعلكة، وعُرف عند العرب بأنه الكاتب العالمي الوحيد الذي وقف إلى جانب القضية الفلسطينية بلا حدود. بل تجاوز المساندة المعنوية إلى الدعم الفعلي بالبيانات والتعريف بالقضية، وزيارة مخيّمي صبرا وشاتيلا. جينيه، الذي كان لصاً قبل شهرته الأدبية، وكتب أشهرَ كتبه في السجن، وزّع كلّ أمواله التي ربحها بعد أن أصبح كاتباً معروفاً على الفقراء بلا حساب.
من ناريْ الاحتلال، الصهيوني في فلسطين والفرنسي في الجزائر، إلى معاناة السود في الولايات المتحدة من العنصرية، كان جينيه يدعم المظلومين أفراداً أو شعوباً، بشكل رآه الغرب متطرّفاً. لكنّه لم يكنْ يهتمّ بردّ الفعل حوله، فهو ينفرُ من مظاهر التقدير، لذا لم يهمّه نفور الوسط الثقافي الغربي. مع العلم أنّ الغرب حينها لم يكنْ يدعم الكيان الصهيوني كما يفعل اليوم.
من قبره في شمال المغرب، الذي أوصى جينيه أن يُدفن فيه برفقة الفقراء الذين أحبّهم، نعود إلى حياة عميقة بهموم القضايا العادلة أولى أن تسرد بدل تشرّده الشهير. صفّق لعمليات المقاومة الشجاعة لحماة وطنهم الفلسطيني، هو الذي لم يكترث بمفهوم الوطن، وتنقّل بين البلدان حاملاً وطنه في قلبه، وقال لسائل: "لا يمكن أن يشكّل الوطن مثلاً أعلى إلّا لمن هم محرومون منه، مثل الفدائيين الفلسطينيين". فقط بعد أن "يستعيدونه، سيحقّ لهم أن يفعلوا به ما يشاؤون، بما فيه أن يلوّحوا به من النافذة".
وعلى عكس باقي الكتّاب الفرنسيين، الذين إما سكتوا أو عارضوا "بلطف" احتلال الجزائر، كان جينيه يندّد بقوة بجرائم الدولة الفرنسية. وفي مرّة، فكّر بالاحتفال بطريقته بـ"يوم الأموات" الذي كان على الأبواب، فحرّر نصّاً موجّهاً إلى الفرنسيين الذين يزورون قبور أقربائهم، وكانت الفكرة أن يوزَّع النص عند مداخل المقابر. فكتب نصّ تنديدٍ قوي، يدعو فيه زوّار المقابر إلى التفكير بموتى آخرين: شيوخ وأطفال ونساء، يسقطون ضحايا الرصاص الإجرامي لجيشهم. فيما اقترح آخرون، أن يُعدّل النص ليصبح أكتر توازناً. لكنّ جان جينيه فقد الاهتمام به حينها، فالفعل المَخطَّط له لمعارضَة مهذّبة، وفي حالة دفاع دائمة، لم يكنْ يهمّه. لقد أراد أن يهاجم الإجرام باسمه واسم فاعليه وضحاياه، بلا مواربة. فكشف للغرب ما حدث في مذبحة صبرا وشاتيلا: "لم أرَ هذا الجيش الإسرائيلي رؤية العين والأذن، غير أنّني رأيتُ ما فعله".
الطاهر بن جلون، الذي كتب منذ أشهر متضامناً مع إسرائيل بعد "7 أكتوبر"، في سقطة أخلاقية، كتب عام 1974 في مقال ضمّه كتاب "جان جينيه: شعرية التمرّد": "ما إن ألفظ اسم الفلسطيني حتى تفرض صورةٌ نفسها بقوّة، هي صورةُ أطفالٍ يابسين في الرابعة أو الخامسة، أنقذهم الأطباء في مخيم البقعة في الأردن. والنساء الفلسطينيات يحملن أطفالهن إلى المستشفى وعلى سواعدهنّ حزمة من الحطب اليابس. لقد رأيتُ أطفالَهُن يموتون. ورأيت الذين كبروا منهم وقد صاروا فدائيين". نعم، وصفهم بن جلون حينها بـ"الفدائيين"، وكم يبدو ذلك الزمن قريباً.
كتب جينيه في رحلته إلى جهنم صبرا وشاتيلا، "بالنسبة لي، كما بالنسبة لمَنْ بقي من السكان، التجوّل في شاتيلا وصبرا يشبه لعبة (القفز)، (علينا أن ننطّ فوق الجثث!). وقد يستطيع طفل ميّت أحياناً أن يَسدّ الأزقّة لأنها جدّ ضيقة، والموتى كُثُر". لهذا فإذا "كان أحد القراء قد رأى خريطة جغرافية لفلسطين، فإنّه سيعلم بأنّ الأرض ليست ورقة كتابة". لهذا "لا تكفي أن تُكتب بعض الحكايات، ما يحتاجه المرء هو تشكيل كميّة غزيرة من الصور".
رحل جينيه عام 1986، حزيناً لأنّه "عندما يحصل الفلسطينيون على دولة ومؤسّسات، فإنّني لن أكون إلى جانبهم". هي بُشرى عمرها أربعون سنة، وربما تنتظرها سنوات أخرى، لكنّها نهاية منطقية لمعاناة شعب جبّار.