الفلسطينيون والسراب الأميركي
من المفهوم ألا يقلّل بعضهم من قيمة الانتقادات الأميركية الرسمية العلنية لإسرائيل أخيرا، إلا أنه، في المقابل، لا تنبغي المبالغة في تقدير حجمها، إذ ثمَّة بونٌ شاسع، في السياق الذي نحن بصدده، بين الأقوال وما يترتب عليها من تداعيات. وكان المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، وصف، الأربعاء الماضي، دعوة وزير المالية الإسرائيلي المتطرّف، بتسلئيل سموتريتش، إلى "محو" بلدة حوّارة جنوبي نابلس بأنها "بغيضة وغير مسؤولة ومثيرة للاشمئزاز". وفي لغةٍ غير معهودة أميركياً في الحديث عن إسرائيل، أضاف برايس: "مثلما ندين التحريض الفلسطيني على العنف، فإننا ندين هذه التصريحات الاستفزازية التي ترقى أيضاً إلى مستوى التحريض على العنف". كما دعا رئيس الوزراء نتنياهو "وغيره من كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى رفض هذه التعليقات والتنصل منها علناً وبوضوح". قبل ذلك، كان الممثل الأميركي الخاص للشؤون الفلسطينية، هادي عمرو، قد زار حوّارة بعد اعتداء مليشيات من المستوطنين عليها مساء الأحد الماضي، وأصدر المكتب الأميركي للشؤون الفلسطينية في القدس بياناً دان فيه "أعمال العنف العشوائية وواسعة النطاق وغير المقبولة التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون في المناطق الفلسطينية"، مطالباً بـ"محاسبة كاملة ومقاضاة المسؤولين عن الهجمات الشنيعة التي يرتكبها المستوطنون".
لن نعود إلى الإطار العام للانحياز والتواطؤ الأميركي المستمر مع إسرائيل منذ عقود طويلة، بل سيُكتفى بالتذكير بالسياق الراهن وكيف وصلنا إلى هنا. قبل أسبوعين، تقدّمت الإمارات، بتنسيق مع السلطة الفلسطينية، بمشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي يدين منح الحكومة الإسرائيلية تراخيص لتوسيع تسع بؤر استيطانية عشوائية جديدة في الضفة الغربية. ولكن، تحت وقع ضغوط أميركية شديدة تراجع الطرفان عن تقديمه، وقبلا ببيان رئاسي رمزي صدر عن مجلس الأمن في 20 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، لكنه لا يحمل صفة قانونية إلزامية. مقابل ذلك، تعهّدت إسرائيل بتعليقٍ مؤقت لمنح تراخيص استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وهدم منازل الفلسطينيين فيها، فضلاً عن تخفيض اقتحاماتها مدن الضفة الغربية وقراها لتجنّب مزيد من التصعيد. لم يمض يومان حتى كانت القوات الإسرائيلية تقتحم نابلس، مرتكبة مجزرة أودت بحياة 11 فلسطينياً وجرحت أكثر من مائة. وفي اليوم نفسه، استأنفت الحكومة الإسرائيلية المصادقة على بناء وحدات استيطانية جديدة وهدمت منزلين فلسطينيين.
يسعى الأميركيون إلى تصوير نتنياهو وكأنه عاجز عن السيطرة على حكومة من الفاشيين المتطرّفين، ورغم أن في ذلك قدرا من الصحة، إلا أن نتنياهو لا يقلّ فاشية وتطرّفاً عنهم
لم تستسلم إدارة جو بايدن، فكان أن رتبت اجتماعاً أمنياً، في الـ26 من فبراير/ شباط في العقبة، بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبإشراف أميركي مصري أردني. وخلال الاجتماع، وقعت عملية عسكرية فلسطينية قرب بلدة حوّارة، على خلفية المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في نابلس، أدّت إلى مقتل شقيقين إسرائيليين. مباشرة، اقتحمت مليشيات من المستوطنين البلدة، تحت حماية جيش الاحتلال، وأضرموا النيران في منازل الفلسطينيين وسياراتهم، ما أدّى إلى مقتل فلسطيني وإصابة آخرين بجروح بالغة. وكانت المفارقة الأخرى الصارخة في تأكيد كل من سموتريتش ووزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، في يوم انعقاد الاجتماع الأمني، أن بناء المستوطنات في الضفة الغربية سيستمر ولن يتوقف أبداً، وذلك على الرغم من تأكيد البيان الصادر عن الاجتماع أن إسرائيل التزمت بوقف النقاش بشأن بناء مستوطنات أربعة أشهر. وفي المقابل، لن يتخذ الفلسطينيون إجراءاتٍ ضد إسرائيل في الأمم المتحدة.
يسعى الأميركيون إلى تصوير نتنياهو وكأنه عاجز عن السيطرة على حكومة من الفاشيين المتطرّفين، ورغم أن في ذلك قدرا من الصحة، إلا أن نتنياهو لا يقلّ فاشية وتطرّفاً عنهم. تعلم إدارة بايدن ذلك، ولكن الإقرار به يعني ضرورة فرض عقوباتٍ على إسرائيل، كتعليق المساعدات العسكرية لها أو جزء منها، أو حتى رفع غطاء حقّ النقض (الفيتو) عنها في مجلس الأمن، وهذا ما لا تريده لكلفته السياسية الكبيرة. أولاً، لأن الكونغرس بأغلبية حزبيه من الديمقراطيين والجمهوريين لن يقبل بذلك، خصوصاً وأن مؤثرين بينهم ما لبثوا يحجّون إلى الدولة العبرية يؤكّدون دعمهم المطلق لها. وثانياً، لأن الولايات المتحدة متحيّزة ومتماهية تأسيساً ومؤسسياً مع النظام الكولونيالي الإحلالي الإمبريالي في فلسطين المحتلة، وهو أمر شرحت جانباً منه في مقال في "العربي الجديد" نشر في 25/ 11/ 2022. وهذا لا يعني أنه لا يوجد تغيير تدريجي وحقيقي في الولايات المتحدة لصالح الحقوق الفلسطينية، في دائرة الرأي العام وفي الحزب الديمقراطي، وبين الأجيال الأكثر شبابا، خصوصاً المولودين بعد 1996، إلا أن هذا التحوّل لم يصل بعد إلى درجة إحداث حرف جذري في التواطؤ الأميركي الرسمي مع إسرائيل، مع أنه نجح في إحداث شقوقٍ وتصدّعاتٍ فيه، والإدانة الأميركية أخيرا أحد تعبيراتها.
يبقى أن نقول إن الجانب الفلسطيني الرسمي، راغباً أو كارهاً، كمن يزرع في البحر في توسّله موقفاً أميركياً مبدئياً في محاسبة إسرائيل على جرائمها. وللأسف، في غياب برنامج وطني جمعيٍّ، أو اعترافٍ بحجم المعضلة والورطة التي يقبع فيهما الفلسطينيون، فإن أخطاء كارثية، كسحب مشروع القرار في مجلس الأمن أو اجتماع العقبة، ستتكرّر، خصوصاً وأن أطراف العقبة اتفقوا على الاجتماع مجدّداً في مارس/ آذار الحالي في شرم الشيخ. وهكذا دواليك، تبقى صيرورة سراب البقيعةِ الأميركي الذي يحسبُه الطرف الفلسطيني الرسمي في كل مرّة ماءً ليأتيه فلا يجده شيئاً حاكمة، وهو أمر سبق أن فصّلت فيه في مقال آخر في 3/ 2/ 2023.