الفضاء السيبراني.. هل تتغلب المخاطر على الفرص؟

10 اغسطس 2022

(Getty)

+ الخط -

أصبح الفضاء السيبراني متجذّرًا في حياتنا (يمكن تشبيه هذا المجال بحاسوب افتراضي أو مجال عالمي يتكون من الشبكات المترابطة للبنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والبيانات وشبكات الاتصال وأنظمة الكمبيوتر والمعالجات بما فيها الشبكة العنكبوتية .. إلخ)، فمن دون شك أضحى هذا المجال رمزاً للقوة، وضمن المحدّدات الجديدة لها من حيث طبيعتها وأنماط استخدامها وطبيعة الفاعلين فيها. وانعكس ذلك على قدرات الدول وعلاقاتها الخارجية. نتحدث اليوم عن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم بحوالي 4.95 مليارات شخص، وفقًا لإحصائيات العام الجاري (2022)، ويعادل هذا الرقم تقريبًا 62% من إجمالي سكان المعمورة، كما أن هذا العدد فى تزايد مستمر، حيث يوجد حوالي 257 مليون مستخدم جديد للإنترنت خلال العام الواحد تقريبًا. ويقدّر معدل نمو مستخدمي الإنترنت حاليًا بحسب تقارير إعلامية بحوالى 5.7%، أي ما يعادل أكثر من 700 ألف مستخدم جديد كل يوم. وكي لا ننسى أيضًا، يوجد اليوم حوالي ثلاثة مليارات شخص لا يزالون "غير متصلين" بالإنترنت، مع وجود غالبية هؤلاء في جنوب آسيا وشرقها، وفي أجزاء من أفريقيا. وتفيد الاتجاهات الحالية بأن ثلثي سكان العالم (يجب أن) سيكونون متصلين بالإنترنت في وقت ما في النصف الثاني من عام 2023.

تتغير التطورات التكنولوجية السريعة والأفكار المبتكرة باستمرار، وتعيد تشكيل هذا العالم الافتراضي؛ ومن ثم فهو ديناميكي، ودرجة التغير فيه كبيرة ودراماتيكية. على سبيل المثال، منذ حوالي ثلاث عشريات من السنين تقريبًا، كان الاتصال اللاسلكي في الأماكن العامة أمرًا لا يمكن تصوره. نشهد اليوم كيف أدّى إدخال الشبكة اللاسلكية إلى رفع مستوى الفضاء الإلكتروني إلى ارتفاع مختلف من حيث الكفاءة والراحة والانسيابية والسهولة في الاتصال والتواصل. ومع ذلك، فإنه يقدم أيضًا مجموعة جديدة من التهديدات والتحديّات، إذ يعد الاختراع الأخير للحوسبة الكمومية (وهو نموذج حوسبي نظري، يتم من خلاله معالجة البيانات وعمليات الحوسبة من خلال قوانين "الكم") أسرع مائة مليون مرة من أجهزة الحاسوب الموجودة. في حين أن هذا يوفر قوة حوسبة أعلى بكثير، يمكن للقراصنة أيضًا استخدام الجهاز نفسه لاختراق الأوراق المالية بطريقة أسرع؛ وبالتالي تغيير مشهد الأمن السيبراني إلى حد كبير. تتطلب هذه الديناميكية للفضاء السيبراني الآن تقييم مجالات للاستراتيجيات السيبرانية الوطنية لدول عديدة.

إمكانات الفضاء السيبراني أصبحت من الأهمية بمكان في خيارات الدول، لما لها من تأثير كبير على التفاعلات الدولية

أبرز التحديات الشائعة في صياغة الاستراتيجيات السيبرانية تتحدّد في عدة أسباب، منها على سبيل الذكر لا الحصر: الافتقار إلى رؤية واضحة للشؤون الإلكترونية على المستوى الوطني، بحيث لا تمتلك معظم الدول النامية سياسات وطنية متماسكة في ما يتعلق بفضائها الإلكتروني. وكذلك الاعتماد الكبير على الأجهزة والبرامج المستوردة، إذ تعتمد دول عديدة على استيراد التقنيات والتكنولوجيات الحاسوبية من دول متقدّمة بهذا المجال (مثل الصين وأميركا)، وتستخدمها في قطاعاتها الحيوية، مثل الدفاع والأمن والمؤسسات المالية الاقتصادية والحكومية، وبالتالي، تشكل هذه التبعية تهديدًا خطيرًا لأمن الدول القومي.

أحد أهم الأسباب الأخرى في هذا السياق تخصيص ميزانية غير كافية للعمليات السيبرانية، نتيجة إحجام بعض الحكومات عن منح الأموال الكافية للمنظمات/ الهيئات/ المؤسسات ذات الصلة بالقضايا السيبرانية، بسبب عدم فهم أو لنقل، بصورة أخرى، عدم إدراكٍ كافٍ لجدّية هذا المجال وأهميته على المستوى الوطني الحيوي، ودور الأمن السيبراني في عملية حماية الأنظمة والشبكات والبرامج ضد الهجمات الرقمية في ظل بزوغ مشهدٍ رقمي يعزّز التعاون المتواصل لرصد المخاطر الجديدة. أضف إلى ذلك عدم وجود هيكل وطني مناسب للتعامل مع الصراعات السيبرانية، فبعض الدول ليس لديها أي معهد/ مركز وطني متخصص ومتكامل، يمكن أن يدير القضايا السيبرانية ويشرف عليها، ويستجيب لأمن الفضاء الإلكتروني، ويعزز أمن المعلومات بأشكالها كافة، ناهيكم عن غياب ثقافة الأمن السيبراني المستمرة داخل الهيئات الحكومية البيروقراطية المترهلة في بعض دول العالم الثالث، إذ لا تمتلك معظم تلك الدول النامية سياسة ناظمة لرصد التهديدات على بنيتها التحتية الحيوية، مثل البنوك وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية ومعاملاتها المالية وقطاعاتها الحيوية المختلفة، إذ يبدو أن بعض حكومات الدول النامية متردّدة في بدء أي تغيير جذري في السياسة الحالية والجهاز الحكومي، ما يعزّز هذا التوجه وجود صعوبة في تبنّي التقنيات المتغيرة بسرعة في الوقت المناسب، والافتقار إلى مبادرات البحث والتطوير للمنتجات الرقمية المحلية، مع غياب مراكز البحث والدراسات والتطوير في كثير من دولنا "العالمثالثية"، من دون وجود استفادة من الخبرات المتاحة..

الفضاء السيبراني سلاح ذو حدين لما يتضمنه من إيجابيات من جهة، ومن تحديّات وتهديدات من جهة أخرى

يمكن القول، بناء على هذه المعطيات، إن من الصعوبة بمكان أن تكون هناك دول حديثة ومتطوّرة ومزدهرة من دون إيجاد حلول تتغلب على المشكلات الواردة في النقاط أعلاه، ومن دون وجود نظام موثوق وقوي لضمان أمن مجالها وفضائها السيبراني؛ فهذا الأخير يمثل، في الوقت نفسه، فرصة عظيمة وواعدة وريادية، من دون إغفال جانبه المظلم والخطير، والذي ينبغي إدارته بشكل صحيح ومدروس وفاعل.

كيف لا ومعظم البنى التحتية اليوم لمختلف دول العالم المتقدّم ترتكز على الفضاء السيبراني، القائم على تكنولوجيا تقنية المعلومات وتقنية الاتصالات، في المجالات كافة؛ الصناعية والعسكرية والأمنية والطاقة والمياه والصحة ومنظومة النقل وقطاع البنوك والمؤسسات المالية والحكومية، حتى أضحى جزءًا من الأمن القومي، ودخل في تغيير شكل الحروب وتقنياتها وأساليبها نتيجة تغير طبيعة تهديداته وإلحاق الضرر بالمؤسسات والمراكز الحيوية والاستراتيجية للدول.

قد تنظر بعض البلدان والجهات الأخرى إلى الفضاء السيبراني من منظور مختلف، فبعضها يرى أنه يشكل فرصة عمل واستثمار، أو وسيلة للتعبير عن الذات، بينما يرى بعضها الآخر أنه تهديد لأمنها القومي، في حين أن هناك أمثلة عديدة على التكنولوجيا المستخدمة لأغراض خبيثة، تخبرنا التجارب أيضًا أن الوصول ميسور التكلفة إلى تقنيات الاتصالات وتدفقات المعلومات العالمية يمكن أن يكون قوة للتقدّم الاقتصادي والتكنولوجي والتفوق المعلوماتي والتكنولوجي.

لا تمتلك معظم الدول النامية سياسة ناظمة لرصد التهديدات على بنيتها التحتية الحيوية، مثل البنوك وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية ومعاملاتها المالية

عودًّا على بدء، الفضاء السيبراني سلاح ذو حدين لما يتضمنه من إيجابيات من جهة، ومن تحديّات وتهديدات من جهة أخرى، سيما وأن الهجمات والجرائم السيبرانية أصبحت مركّبة ومعقدة ومتسارعة وخطيرة، ويصعب على مؤسساتٍ كثيرة التغلب والدفاع عن أمنها السيبراني من دون وجود استراتيجيات عمل وطنية واقتناء تقنيات وتطبيقات متطورة وممارسات سليمة ضمن استراتيجية شاملة للأمن السيبراني، تأخذ بالاعتبار كل الاحتمالات للوقاية من مخاطر هذا الفضاء وتهديداته، وهو الفضاء العالمي المتسع الذي أصبح ميدان الحرب الجديد بين أطراف القوى العظمى العالمية.

إمكانات هذا الفضاء أصبحت من الأهمية بمكان في خيارات الدول، لما لها من تأثير كبير وفاعل في متطلبات عملية التفاعلات الدولية، وقد أضحى هذا الفضاء حاجة ضرورية وملحة، وفي الوقت نفسه، أداة فاعلة وحاسمة، أحيانا كثيرة، في الصراعات الدولية، لا بل إن دولا متطورة، تحسن استخدام إمكاناتها وقدراتها السيبرانية كأداة لتعظيم النفوذ والسيطرة والهيمنة من خلال توظيف العامل الاقتصادي والعسكري لها على وجه الخصوص. ويبقى هناك شعور بانعدام الأمن آخذ بالتنامي، نتيجة حجم التهديدات والهجمات السيبرانية التي تُحدق بالخدمات والبنى التحتية الحسّاسة للدول، ومستواهما ونطاقهما، يزداد بشكلٍ متسارع يفوق الإجراءات الدفاعية. وعليه، لا بدّ من إسراع الدول في تعزيز مقومات ترسانتها السيبرانية وقدراتها، بالاعتماد على عناصر قوتها الوطنية وبالمشاركة مع القطاع الخاص، لتفادي عواقب الإضرار بمصالحها الاستراتيجية ومرتكزات أمنها الحيوي.

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.