الفساد في العراق فوضى منظمة
يتحدّث الكل في العراق، المبتلى بهشاشة النظام حكومي المنشأ بعد احتلاله عام 2003، عن آفة الفساد، حتى يتساءل بتعجّبٍ كل من يستمع لتصريحات أصحاب القرار والمسؤولين التنفيذيين والسياسيين وقادة الكتل البرلمانية مع نوابهم: من هو الفاسد إذن؟ إن كان الجميع يكفر بهذا الداء المستشري في كل منظومات هذا البلد ويلعن الفساد؛ فلماذا كل ساعة وليس كل يوم، تدخل إلى منظومة هذا الفساد أسماء وأرقام جديدة، وكأن مفردة "الفساد"، لدى المسؤولين العراقيين، لا تعني مفردة "الفساد" التي تم تعريفها، بشكل واضح ومتكرر، في كل المنظمات الدولية وأغلب حكومات العالم على تنوع أنظمتها، أنه "إساءة استخدام منصب قائم على الثقة من أجل تحقيق مكاسب غير شريفة".
يمثل الفساد، في جوهره، حالة تفكّـك تعتـري المجتمع نتيجة فـقـدان هذا المجتمع سيادة القيم الجوهرية وغياب المساءلة، حتى يصبح من الصعب على المجتمع الفاسد أن يكون قوياً، أو أن تكون الدولة التي يستشري فيها الفساد ذات سيادة فعلية، كما يتسبب مزيدٌ من الفساد في "تقويض قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها في مجال حقـــــوق الإنسان، والانتقاص من جودة الخدمات العمومية، بسبب التلاعب بالميزانيات العامة، والانتقاص من المبالغ المخصصة لتعزيز حقوق الإنسان. وقد يصبح الفساد خطرا على الأطفال الذين يكبـرون في بيئة فاسدة، ما قد يجعلهم يألفــون هذه الممارسات، ويعتبرونها سلوكيات عاديــــة، وجزءا من تفاعلات المجتمع".
وعلى الرغم من أن في العراق جهات عديدة معنية في ديباجة تشكيلها بمكافحة الفساد وملاحقته كهيئة النزاهة، ديوان الرقابة المالية، ولجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي، إلا أن كل هذه الجهات، مضافا إليها القضاء العراقي وخطب ممثلي المرجعيات، لم تعلن أو تقدم أي شخص أو طرف للشعب العراقي أنه فاسد، باستثناء حالاتٍ نادرة تم الإعلان عنها فقط، من دون تطبيق الأحكام الخاصة بها، على الرغم من هزالتها ثم تم تذويبها ونسيان ملفاتها بعد أيام، والأدلة على ذلك عديدة ومحدّدة.
عملية "الانتخاب" ليست سوى جزء رئيسي من دراما الفساد، والمتبارون الرئيسيون فيها هم حيتان الفساد، ومن قاد العراق إلى هذا المستنقع الآسن
وكانت حكومة مصطفى الكاظمي قد أعلنت، منذ تسلمها إدارة البلد في 7 مايو/ أيار 2020، أنها ستستهدف الفاسدين، وستقدّمهم للقضاء، وستطلب منهم إعادة الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة، لكنها باتت اليوم عاجزة بشكلٍ لا يقبل الشك عن اتخاذ إجراءاتٍ كفيلةٍ بتحقيق هذا الهدف. وبدلاً عن إعادة الأموال المنهوبة والمسلوبة من إيرادات الدولة، النفطية وغير النفطية (منافذ حدودية، جمارك)، التفّت الحكومة العراقية على الطبقات ذات الدخل المحدود والفقيرة في الشعب العراقي، من خلال عدة إجراءات وقرارات، تم اتخاذها خلال أقل من ستة أشهر، آخرها خفض سعر صرف الدينار العراقي، وإيقاف التعيينات خلال العام المقبل 2021، وفرض مزيد من الضرائب على الوقود وأصحاب المهن من الكسبة، وهي إجراءاتٌ وصفها رئيس هيئة النزاهة الأسبق، رحيم العكيلي، بأنها عاجزة "عن مكافحة الفساد وتمس بمصالح المواطن البسيط، وستصبّ في صالح حيتان الفساد، لاحظوا مشروع الموازنة لعام 2021، هل تجدون فيه أي أعباء جديدة حقيقية على الأغنياء والمصارف وشركات النفط والمقاولين والتجار؟".
إن تورّط شخصيات سياسية كبيرة وأحزاب نافذة في عمليات الفساد في العراق، وتأسيس مافيات منظمّة تعمل بكل أريحية؛ حيناً بتجاهل أجهزة الدولة عنها، وأخرى بحماية أسلحة المليشيات، كما أن ارتباط عمليات الفساد في العراق بشبهات تنسيقٍ محكمٍ مع دول إقليمية، يجعل من أمر اجتثاثها أمراً ليس بالهين، إنْ لم يكن بالمستحيل في ظل طبيعة التركيبة القانونية والتنفيذية والتشريعية القائمة في العراق، فعلى الرغم من قرار رئيس الوزراء، الكاظمي، نهاية أغسطس/ آب الماضي، تشكيل لجنةٍ كاملة الصلاحيات، للتحقيق بقضايا الفساد الكبرى، برئاسة الفريق الحقوقي أحمد طه هاشم من وزارة الداخلية، وثلاثة ممثلين عن جهاز المخابرات الوطني، وجهاز الأمن الوطني، وهيئة النزاهة، فضلاً عن 25 محققاً و15 موظفاً إدارياً. وعلى الرغم من توفر مئات الملفات الخاصة بأرباب الفساد، إلا أن أياً من الفاسدين الحقيقيين لم يقدّم للمحاكمة، حتى يعلم شعب العراق جدّية الإجراءات والقرارات الحكومية بحق من سلب و ما زال أموالهم.
ربما يقول قائل إن الكاظمي جاد في اجتثاث الفساد من بلاده، ويستشهد بإحالة مسؤولين سابقين وحاليين إلى التحقيق، كمدير هيئة التقاعد السابق أحمد عبد الجليل الساعدي، و"الرجل المحصن"، مدير شركة "كي كارد"، بهاء عبد الحسين، المتهم بتورطه في شبكة كبيرة لغسل الأموال يستخدمها سياسيون عراقيون، ووزير الكهرباء العراقي السابق، لؤي الخطيب، إضافة إلى محافظ نينوى السابق، إلا أن الإجابة سرعان ما تأتي مع إحباط كثير؛ ماذا حلّ بهؤلاء؟ وأين هم الآن؟ وهل تم إطلاع الشعب العراقي على تفاصيل جرائمهم، ومن ثم الأحكام الصادرة بحقهم؟
يعاني العراق من عدم وجود الكهرباء بشكل مقبول، ومن غياب مياه صالحة للشرب في جميع أنحائه، مع تراجع في التعليم والصحة والصناعة والزراعة
وقد جاءت اللجنة التحقيقية على "وجود صلة وثيقة بين شخصيات كبيرة فاسدة، وعصابات جريمة منظمة ومليشيات خارجة على القانون، تتقاضى مبالغ مالية من الأطراف الفاسدة مقابل تنفيذ عمليات اعتقال واغتيال واختطاف منظمة". ولذلك، تتطلب مكافحة الفساد في العراق إجراءات إضافية أكثر من مجرد الاعتقالات الفردية، لأن الفساد تفشّى داخل الجهاز الحكومي برمته، بل أصبح عُرفاً لا يُعيب من يمارسه، لأن هذا الجهاز قائمٌ على المحاصصة بين الكتل السياسية العراقية، وقد توافقت هذه الكتل على تقديم تنازلاتٍ لبعضها بعضا، حتى تعود بالفائدة على الجميع، فيما أثر ذلك على الخدمات ومستوى المعيشة والتعليم والصحة والمواصلات، وغيرها من واجبات الدولة تجاه شعبها، وبما جعل العراق أكثر دول العالم فساداً، وفق مؤشّر منظمة الشفافية الدولية.
العراق الذي تصل نسبة البطالة فيه إلى أكثر من 40%، ومعدّلات الفقر إلى أكثر من 50%، والذي على الرغم من مئات المليارات المهدورة والمسلوبة، ما زال يعاني من عدم وجود الكهرباء بشكل مقبول، ولا مياه صالحة للشرب في جميع أنحائه، مع تراجع مخيفٍ في كل مستويات التعليم والصحة والصناعة والزراعة والأمن. ربما يقود بالضرورة شعب العراق إلى أن يكون أكثر جدّية في التصدّي بنفسه لطوفان الشر والفساد الذي تمكن من بلادهم منذ العام 2003. ويعتقد كاتب هذه المقالة جازماً أنه سوف لن ينتظر الانتخابات المبكرة المزمع إجراؤها الصيف المقبل، لأنه باختصار، يعلم جيداً أن عملية "الانتخاب" ليست سوى جزء رئيسي من دراما الفساد، وأن المتبارين الرئيسيين فيها هم حيتان الفساد، ومن قاد العراق إلى هذا المستنقع الآسن.