الفرح العربي الكبير
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
كنّا شاهدين، في الأيام الماضية، أيام مونديال قطر 2022، على فرح عربي جارف "يمتد كسرب حمام" من شرق المشرق العربي إلى غرب المغرب العربي، وأكثر امتداداً من ذلك؛ فرح عربي وصل إلى أوجه مع اجتياز المنتخب المغربي عتبة مباريات نصف النهائي؛ فرح عربي أخذ الرجال والنساء، الكبار والصغار، العارفين بالقواعد التفصيلية للعبة كرة القدم وغير العارفين بها. يبثّ هذا الفرح العربي الجارف رسالة هامة مفادها التالي: رغم الانقسامات السياسية والأيديولوجية الطافية على السطح بين الدول العربية وداخلها، ورغم تنافر الحكّام العرب الطافي على السطح أيضاً، هناك في العمق، وعلى المستوى الشعبي، وحدة مشاعر وتحيزات نابعة أساساً من الهوية الثقافية العربية الإسلامية، تلك الهوية الثقافية المتجذّرة في النفوس هي أيضًا الصخرة التي تنكسر عليها سهام الاستعلائيين في الغرب والخصوم من الإقليم ومن خارجه.
ولهذا الفرح الجارف الذي أعقب مباشرةً تخطّي المنتخب المغربي عتبة مباريات نصف النهائي، وهو أول منتخب عربي يصعد إلى مثل هذه المرتبة، جغرافيته وديمغرافيته، فقد أخذ العرب أينما وجدوا، في أقطار الوطن العربي وفي الدول التي هاجروا إليها طلبًا للرزق أو العلم أو هربًا من القمع أو القهر. كما أخذ أبناء الأقليات غير العربية في الأقطار العربية وبناتها، إضافة إلى كثيرين من الأفارقة والمسلمين غير العرب. وحتى اليهود في إسرائيل من أصول مغربية أصيبوا بعدوى هذا الفرح الجارف. وفي هذا الصدد، يجب ألا يغيب عن الأذهان أنّ المنتخب المغربي ذاته كان خليطاً من مغاربة مقيمين في بلدهم ومغاربة مقيمين في دول أوروبا الغربية، أساساً فرنسا وبلجيكا وهولندا، ولا يتكلم بعضهم اللغة العربية. لكنّ حبهم وطنهم الأم المغرب وانتماءهم إلى الثقافة العربية الإسلامية لم يكونا موضع شك أو سؤال.
ولهذا الفرح الجارف، وهذا هو الأهم هنا، هويته الثقافية الواضحة والمميزة أيضاً: هوية ثقافية عربية إسلامية، عريقة وجامعة، تقول إنها قادرة على الرد على التحدّي وعلى الإنجاز والفوز، فروعة الإعداد والتنظيم والاستضافة من دولة عربية، وروعة الأداء الكروي من منتخبات عربية، في مقدمتها المنتخب المغربي، فجّرتا هذا السيل من مشاعر الفرح المقترن بالزهو والفخر، فلو كان الإعداد أو التنظيم أو التنفيذ وسطياً أو متردياً، ولو كان الأداء الرياضي للفرق العربية قاصرًا، لما كنّا شاهدين على كل هذا الفرح. وهناك، بالطبع، دور لا يستهان به، ولا يجوز إنكاره، لكل من وسائل التغطية الإعلامية المباشرة، كما لوسائل التواصل الاجتماعي، في ذلك كله.
الهوية الثقافية المتجذّرة في النفوس هي الصخرة التي تنكسر عليها سهام الاستعلائيين في الغرب والخصوم من الإقليم ومن خارجه
هناك مفهومان واضحان ومميزان للعروبة، واحد اجتماعي/ ثقافي والثاني سياسي/ قومي. وينطبق كل منهما، تبعًا لذلك، على جملة أو سلة من القضايا، فإذا كان المفهوم الثاني للعروبة ينطبق على تلك القضايا ذات العلاقة بالهوية الثقافية العربية الإسلامية، فإن المفهوم الأول ينطبق على تلك القضايا ذات العلاقة بالمشروع القومي العربي، والوحدة العربية هدفه النهائي المشتهى. وهناك، بالطبع، قضايا كثيرة تنضوي تحت كلا المفهومين في الوقت نفسه. ولكن التطابق التام بين سلتي القضايا ليس حاصلًا، خصوصاً أنّ هناك بعض القضايا التي تنضوي تحت مفهوم العروبة الثاني حصرياً.
تنضوي تحت العروبة الاجتماعية/ الثقافية تلك القضايا أو العناصر، كلها أو بعضها، والتي في اختلاطها وتفاعلها تصون الهوية الثقافية المشتركة وتغذّيها، مثل اللغة والتاريخ والفنون والعلوم والدين والتقاليد والبنيان والمكان/ الفضاء/ الوطن. تلك القضايا أو العناصر، في اختلاطها وتفاعلها عبر حقبة طويلة، تميز الثقافة العربية الإسلامية عن غيرها من الثقافات، السابقة واللاحقة. كما أن التحديات التي واجهت وما زالت تواجه تلك الثقافة والردود عليها تزيد من تسميكها وصلابة عودها. وكما نعرف، واجهت الثقافة العربية الإسلامية تحدّيات هائلة عبر الزمن، بدءًا من الحملات الصليبية ووصولًا إلى حقبة الاستعمار ولاحقًا. جدير ذكره في هذا الصدد أن المسيحيين في المشرق العربي شركاء في هذه الثقافة المميّزة، ومثلهم المسلمون غير العرب في مختلف أقطار الوطن العربي، ومثلهم أيضًا من هاجروا من الأقطار العربية إلى قارّات أوروبا والأميركيتين وأستراليا. وهناك من اليهود الشرقيين في إسرائيل من يرون أنفسهم شركاء في الثقافة العربية الإسلامية أيضًا. وكما ندرك جيدًا، لأبناء الثقافة العربية الإسلامية وبناتها تحيزات اجتماعية وفكرية وعاطفية غير خافية لصالح الشركاء في تلك الثقافة، ولغير صالح الخصوم أو الغزاة أو الاستعلائيين ثقافياً، قديماً وحديثاً.
وتنضوي تحت العروبة السياسة/ القومية مختلف القضايا أو العناصر التي في اجتماعها وتفاعلها تدفع إلى الأمام، أو تعيق تقدّم المشروع السياسي/ القومي العربي، علمًا أن الهدف النهائي المشتهى لهذا المشروع هو الوحدة العربية الشاملة. وتشمل هذه القضايا، إضافة إلى الهوية الثقافية وعناصرها، أموراً ذات علاقة بأنظمة الحكم ومدى توافقها أو تنافرها، ومصالح الدول العربية المختلفة ومدى تلاقيها أو تباعدها، فقر تلك الدول أو غناها، صراعاتها الإثنية الداخلية، واستقلالها عن النفوذ الأجنبي أو خضوعها القسري أو الطوعي لإرادته. وكذلك مدى شدّة التزام نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية بالتضامن والتكامل والاتحاد أو تراخيها فيه. وقد علّمتنا التجربة المرّة أن الوحدة العربية، درّة تاج المشروع السياسي/ القومي العربي، ما زالت حلمًا بعيد المنال، رغم الحماس الشعبي لها والمناداة بها. وإذا كانت الهوية الثقافية العربية الإسلامية شرطًا ضروريًا لتحقيق المشروع السياسي/ القومي العربي، فإنها بالتأكيد ليست شرطًا كافيًا، فهناك شروط هازمة كثيرة.
كان حضور فلسطين في المونديال طاغيًا، علمًا وكوفية وهتافات وقضية وطنية
وللإجمال، وعلى ضوء ما ورد أعلاه، أقول التالي عن الفرح العربي الكبير، الذي كنّا شاهدين عليه ومشاركين فيه، وحول علاقته بكل من أداء دولة قطر وأداء المنتخب المغربي، "أسود الأطلس"، وبالثقافة العربية الإسلامية عمومًا:
أولًا، هذا الفرح العربي الكبير والممزوج بالفخر والزهو، والذي جرف الوطن العربي من شرق مشرقه إلى غرب مغربه، مردّه عاملان رئيسان: أداء دولة قطر في مجالات الإعداد والتنظيم والتنفيذ والإتاحة، والأداء الكروي للمنتخبات العربية، وفي مقدّمتها المنتخب المغربي، المنتخب العربي الأول الذي اجتاز العتبة لمباريات نصف النهائي. وفي الحالتين، كان الردّ العربي على مستوى التحدّي وأكثر.
ثانيًا، هذا الفرح الكبير ذو علاقة واضحة وحميمة بالهوية الثقافية العربية الإسلامية. ومن هنا، فليس مصادفةً أن تصاب بعدواه بنات هذه الهوية الثقافية وأبنائها، عربًا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، كبارًا وصغارًا. وكان فرح النساء في هذه "اللعبة الرجالية" لافتًا (أقلّ ما يقال). أمًا علاقته بالمشروع السياسي/ القومي العربي فكانت، في اعتقادي، أقلّ وضوحًا وأقلّ التصاقًا.
ثالثا، هذا الفرح العربي الكبير، الناتج عن روعة أداء دولة قطر وروعة أداء المنتخب المغربي خصوصًا، منفصل، في رأيي، عن المواقف المتباينة من الحكّام في كل من دولة قطر ومملكة المغرب، فالفرح الكبير كان شعبيًا في جوهره، وشارك فيه من كان من مؤيدي الحكام أو ناقديهم لأسباب مختلفة.
وأخيرًا، كان حضور فلسطين في المونديال طاغيًا، علمًا وكوفية وهتافات وقضية وطنية. وكان فرح الفلسطينيين بأداء دولة قطر وبأداء المنتخب المغربي، ومن قبله المنتخب التونسي، كبيرًا. كيف لا، وفلسطين تسكن الوجدان العربي، تمامًا مثل ما سكن "أسود الأطلس" قلوب النساء والرجال في الوطن العربي من شرق مشرقه إلى غرب مغربه وأبعد.
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.