الغول والعنقاء والخلّ الوفي في السودان
يتحدّث الجميع في السودان عن ضرورة وحدة قوى الثورة، وأنها أمر لا غنى عنه لإنهاء الانقلاب أو إسقاطه. لمن يكتفون بقراءة العناوين والمانشيتات، يتراءى الأمر وكأنما هناك اتفاق بين جميع الأطراف على ضرورة هذه الوحدة، ولذلك تجدهم دائماً يتساءلون عن أسباب عدم إتمامها، رغم اتفاق الجميع عليها. لكنّ الأمر ليس كذلك مطلقاً، حينما ندقق في التفاصيل، وفي التفاصيل يكمن الشيطان والغول والعنقاء والخلّ الوفي.
نعم، الجميع متفقون على وحدة قوى الثورة، ولكن "قوى الثورة" تعني بالنسبة لكلّ طرفٍ من الأطراف المتعاركة مجموعة مختلفة من المواطنين، فبينما يعني هذا المصطلح بالنسبة لتحالف قوى الحرية والتغيير جميع القوى التي لم تكن جزءاً من نظام عمر البشير لحظة سقوطه، وتلك التي شاركت، عملياً وبصورة أو بأخرى، في ثورة ديسمبر 2018، أو أعلنت تأييدها، فقد أصبح يعني، بالنسبة لمن أسموا أنفسهم معسكر التغيير الجذري، جميع تلك القوى، باستثناء من أسمتهم عملاء الإمبريالية العالمية والنيوليبرالية والمحاور الإقليمية والرأسمالية الطفيلية و"قوى الهبوط الناعم" التي تشمل، في تعريفهم، طيفاً واسعاً من القوى السياسية.
ذلك الاختلاف في تعريف "قوى الثورة" نابع من تعريف الطرفيْن، قوى الحرية والتغيير وقوى التغيير الجذري، لثورة ديسمبر نفسها. يرى تحالف قوى الحرية والتغيير أن ثورة ديسمبر ديمقراطية تهدف، في الأساس، إلى إسقاط الشمولية ونظام الإنقاذ وحكم الفرد والحزب الواحد، وتحقيق التحوّل الديمقراطي باستعادة الديمقراطية التعدّدية وإطلاق الحريات وسيادة حكم القانون واجتثاث الفساد وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين. أما معسكر التغيير الجذري فيرى، في ذلك التعريف، تقزيماً للثورة وتقليماً لأظافرها واستئناسها في إطار مؤامرة الهبوط الناعم الدولية، حيث إن ثورة ديسمبر، في نظرهم، استشراف لـ"ثورة وطنية ديمقراطية" قُطع الطريق عليها بانقلاب 11 أبريل (2019)، ومرة أخرى بانقلاب 25 أكتوبر (2021).
الجبهة الوطنية الديمقراطية هي مشروع الحزب الشيوعي المباشر والآني، وأداته السياسية لإنجاز مهام المرحلة الأولى من برنامجه ثلاثي المراحل
ظلّ الحزب الشيوعي، ومنذ خروجه من تحالف قوى الحرية والتغيير في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، يتحدّث عن "التغيير الجذري" من دون أن يفصح عن مراميه وما يعنيه بذلك التغيير الجذري، ولكن يبدو أن تطوّرات الصراع قد أجبرته، أخيرا، على الإفصاح عن أهدافه بجلاء، فقد جاء في كلمة صحيفة الميدان، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، في 14 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) "الخروج من الأزمة التي عمقها انقلاب 25 أكتوبر المشؤوم يستدعي وحدة الجماهير وبناء أدواتها بما فيه الجبهة الوطنية والديمقراطية – صمام الأمن لانتصار شعبنا ولاستكمال مهام فترة الانتقال والاقتراب من مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ...". وهنا مربط الفرس. الجبهة الوطنية الديمقراطية هي مشروع الحزب الشيوعي المباشر والآني، وأداته السياسية لإنجاز مهام المرحلة الأولى من برنامجه ثلاثي المراحل، مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التي تفتح الأبواب للانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي الاشتراكية، والتي تفضي إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، المجتمع الشيوعي.
يقوم مفهوم مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، لدى الشيوعيين السودانيين، على أن تخلّف المجتمع وتخلّف علاقات الإنتاج فيه، بالإضافة إلى ضرورة إكمال ما تبقى من مهام التحرر الوطني بعد تحقيق الاستقلال السياسي يقتضي وجود مرحلة انتقالية يتم فيها، كما يقول عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني، تاج السر عثمان، "استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، وتحقيق المجتمع الزراعي الصناعي المتطور"، و"إن القوى الاجتماعية المناط بها إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ليست هي مجموع قوى الثورة السودانية"، (سودانايل، 26/8/2021)، وإنما ووفق تصور المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي 1967، هي فقط الطبقة العاملة وجماهير المزارعين والمثقفين الثوريين والرأسمالية الوطنية. ورغم التغيرات الهائلة التي شهدها العالم، وكذلك السودان وتركيبته الاجتماعية منذ 1967، خصوصاً خلال عقود الإنقاذ الثلاثة، فقد ظلت تلك القوى الاجتماعية كما هي من دون أي تغيير، ودونك بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني، في 15 يونيو/حزيران 2022، والذي يذكر أنّ القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير الجذري هي "الطبقة العاملة والمزارعون والرعاة والمثقفون الثوريون والرأسمالية الوطنية العاملة في الإنتاج". وهكذا، تظلّ النظرية خضراء، بينما الواقع، مهما تغيّرت تضاريسه، يظل رمادياً.
الأكثر أهمية أن تاج السر عثمان يستطرد في مقاله، إنه على الرغم من أن المرحلة الوطنية الديمقراطية انتقالية للاشتراكية، إلا أنها، "في الوقت نفسه تتشابك وتتداخل في مستويات معينة مع المرحلة الاشتراكية، وبالتالي لا يمكن الفصل بين المرحلتين". وأهمية الاستطراد هذا في أنه طالما أنه لا يمكن إنجاز الاشتراكية إلا بقيادة الطبقة العاملة "دكتاتورية البروليتاريا"، وطالما أن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية "تتداخل مع المرحلة الاشتراكية، بحيث لا يمكن الفصل بينهما"، فمن المنطقي أن تكون الطبقة العاملة، لا غيرها، هي الفئة التي ستقود مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. وبما أن التجسيد السياسي للطبقة العاملة، سواء كانت الطبقة العاملة هي التي اختارت ذلك أم لا، هو الحزب الشيوعي، فمن الطبيعي أن يكون الحزب الشيوعي، لا غيره، هو قائد الجبهة الوطنية الديمقراطية و"مركزها الواحد".
تبدو قوى الحرية والتغيير حريصة على وحدة قوى الثورة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالأفعال، يتضح أنها غير حريصة على هذه الوحدة، وحتى على وحدة تحالفها نفسه
ظلت الجبهة الوطنية الديمقراطية، والتي لم يكفّ الحزب الشيوعي عن الدعوة لها منذ ستينيات القرن الماضي، مفهوميةً فقط، ولم يتح لها أن تتحوّل إلى كيان ملموس في أي وقت، وإنما بقيت على الدوام، وكما وصفها المناضل الخاتم عدلان "جسد جبهة برأس حزب"، مشرذمة تماماً، كجبهة ديمقراطية وسط الطلاب، وجبهة نقابية وسط العمّال، وتنظيماً ديمقراطياً وسط المزارعين ورابطة أطباء اشتراكيين وسط الأطباء... إلخ... إلخ. بهذه الطريقة، يستطيع الحزب الشيوعي أن يقود كلّ تنظيم منها على حدة، عبر مجموعة الشيوعيين الموجودة داخله، بحيث يصبح هو الصلة الوحيدة بين هذه التنظيمات، إذ لا يمكنها الاتصال بعضها ببعض إلا عبره.
مما تقدّم، يتضح جلياً أن الجبهة الوطنية الديمقراطية لا تصلح مطلقاً إطارا لتوحيد "قوى الثورة"، وأنها ليست سوى غلالة رقيقة يحاول الحزب الشيوعي أن يستر بها سلطته التي لن يشاركه فيها أحد، وفي فترةٍ انتقاليةٍ لا تهدف لتحقيق التحول الديمقراطي والدولة المدنية، وإنما لتحقيق التحول الاشتراكي ودولته الشمولية. والمسؤولية التي تتحمّلها قوى الحرية والتغيير عن إعاقة وحدة قوى الثورة لا تقلّ عن مسؤولية الحزب الشيوعي، ولكن الفرق أنه بينما يستند الحزب الشيوعي إلى أسباب برنامجية واستراتيجية، يعود موقف "الحرية والتغيير"، في مجمله، إلى المصالح الحزبية الانتخابية. المهم بالنسبة لنا أن الطرفين كانا ذاهلين تماماً عن كنه الفترة الانتقالية وحقيقتها ومتطلباتها.
على مستوى الكلام، تبدو قوى الحرية والتغيير حريصة على وحدة قوى الثورة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالأفعال، يتضح أنها ليست فقط غير حريصة على هذه الوحدة، بل هي غير حريصة حتى على وحدة تحالفها نفسه. لقد خرج الحزب الشيوعي السوداني من التحالف، لا ليشرع في تنفيذ برنامجه الخاص بعيداً عنها، وإنْ كان قد استغلّ خروجه منهما كفرصة لتحقيق ذلك، ولكنه خرج احتجاجاً على هضم حقه في المشاركة المنصفة في اتخاذ القرارات. وبالطريقة نفسها، هدّد حزب الأمة عدة مرات بالخروج من تحالف الحرية والتغيير، قبل أن يجمّد عضويته احتجاجاً على التآمر عليه في اتخاذ القرارات، وعلى عدم الإنصاف في توزيع مناصب الولاة والوزراء وغيرهم. يتذكّر الناس كيف حارب التجمع الاتحادي بالظفر والناب، ليحصل على ولاية الخرطوم، وكذلك فعل حزب البعث في ما يتعلق بوزارة الحكم الاتحادي. تلك المناصب لم تكن مهمّة لدورها في تقديم الخدمات للناس، وإنما بالنظر إلى دورها في خدمة المصالح الانتخابية للحزب الذي يحصل عليها.
ثورة ديسمبر 2018 ملك لكلّ الشعب السوداني، شارك فيها، بكلّ طبقاته وفئاته الاجتماعية وأقوامه المختلفة
كان تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، مثلاً، من أهم متطلبات الفترة الانتقالية، إذ كان سيكفل إجازة كلّ التشريعات الثورية من دون الحاجة للاجتماع المشترك مع "المكون العسكري"، كما كان سيكفل مراقبة الأداء التنفيذي، وبل ربما كان قد كفانا شر انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول نفسه، لكنّ الفترة الانتقالية انتهت عملياً من دون تكوين المجلس التشريعي، والذي كان مقرّراً إنشاؤه في فترة لا تتجاوز تسعين يوماً من بدايتها، ويرجع ذلك، أولاً وأخيراً، إلى الصراع الحزبي بين مكوّنات الحرية والتغيير.
لقد شرعت "الحرية والتغيير" الآن في المناداة بتكوين جبهة مدنية واسعة، لأنها تعلم أنه لا يمكنها ادّعاء أنها تمثل كل قوى الثورة. بما أن الجبهة المدنية الواسعة ستكون هي الإطار الذي يلم شعث كل قوى الثورة، فمن المنطقي أن تكون هي التي ستتفاوض نيابة عنهم، ولكن ما يجري الآن هو غير ذلك، لأن "الحرية والتغيير" شرعت فعلاً في التفاوض عبر آلية أميركية - سعودية بديلة، وهو ما يجعل دعوتها إلى قيام تلك الجبهة المدنية الواسعة فارغة من المضمون. لا تريد "الحرية والتغيير" جبهةً مدنيةً تقوم بالتفاوض مع الانقلابيين، بل هي لا تريد حتى لمجموع أحزابها وقواها السياسية هي ذاتها بالمشاركة في التفاوض واتخاذ القرارات، وإنما تريد أن تقصر ذلك على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بينهم من يمثل حركةً يجلس قائدها في قمة هياكل الانقلاب، ويصف شباب لجان المقاومة بالإرهابيين، وبينهم من لا يمثّل إلا نفسه، وهو ما يهدّد بانقسامٍ جديدٍ في قوى الحرية والتغيير، بدأت نذره ببيانات حزب البعث، أخيرا، أصالة عن نفسه وبالوكالة عن قوى الإجماع الوطني.
مع ذلك كله، ليست وحدة قوى الثورة، بالضرورة، من رابع المستحيلات، بل هي أمرٌ من الممكن تحقيقه بقليل من المعقولية من هذا الجانب، وببعض المصداقية من الجانب الآخر وبتوافق بسيط على الأبجديات التالية:
أولاً، ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 ملك لكلّ الشعب السوداني، شارك فيها، بكلّ طبقاته وفئاته الاجتماعية وأقوامه المختلفة، ما عدا أعضاء حزب المؤتمر الوطني والانتهازيين الذين ظلوا يشاركونهم في سلطة الإنقاذ حتى إسقاطها.
الوحدة المطلوبة في السودان صارمة حول الهدف الاستراتيجي، إسقاط الانقلاب، لكنّها وحدة مرنة حول الوسائل والتكتيكات
ثانياً، استهدفت ثورة ديسمبر إسقاط نظام الإنقاذ الشمولي واستبداله بنظام ديمقراطي مدني تعدّدي، يهدف إلى اجتثاث الفساد وبسط الحريات العامة وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حقه في العيش الكريم.
ثالثاً، الفترة الانتقالية قصيرة، مهمتها الأساسية تفكيك دولة النظام البائد والشروع في محاسبة مجرميه ومحاكمتهم والإعداد لقيام نظام ديمقراطي تعدّدي وفق قوانين تضمن نزاهة العملية الانتخابية والمشاركة العادلة فيها، وقيام المؤتمر الدستوري. التغييرات الجذرية المطلوبة مكانها المؤتمر الدستوري، لتصدُر بالتوافق بين كلّ طوائف الشعب السوداني. تطرح الأحزاب والقوى السياسية المختلفة برامجها للشعب في الانتخابات العامة، ليختار من بينها ما يشاء ولا يفرضها أحد عليه بأي دعوى كانت.
رابعاً، نحن الآن بصدد انقلاب عسكري غاشم، قطع الطريق أمام إكمال الفترة الانتقالية وشرع في إعادة النظام البائد وكلّ سياساته وممارساته ومنسوبيه إلى السلطة. لا مستقبل لثورة ديسمبر المجيدة، بل لا مستقبل للوطن في ظل بقاء هذا الانقلاب في السلطة، ولا يمكن هزيمة هذا الانقلاب ودحره إلّا بوحدة قوى الثورة كافة للتصدّي له وإسقاطه.
خامساً، الوحدة المطلوبة صارمة حول الهدف الاستراتيجي، إسقاط الانقلاب، لكنّها وحدة مرنة حول الوسائل والتكتيكات. الوحدة لا تعني بالضرورة التطابق، وإنّما تعني الاعتراف بالخلافات والاختلافات واحترامها وإدارتها بحنكة ومسؤولية، وكذلك هي لا تعني، بالضرورة، شكلاً وهيكلاً موحداً، وإنما قد تكون في شكل تنسيق فعّال يتطور في ما بعد، وحسب نمو الثقة بين أطرافه، إلى أشكالٍ أكثر تماسكاً.