العنصرية الأوروبية بتجليّاتها الكروية

08 نوفمبر 2022

لافتة الفيفا أمام ملصق تميمة قطر 2022 "لعّيب" في الدوحة (7/11/2022 فرانس برس)

+ الخط -

بعد أن انطلق القطار بقوة زخمه الذاتي، وبالسرعة المجدولة سلفاً، وبات على وشك الوصول إلى محطته النهائية، تجمّعت في السماء البعيدة سحبٌ سوداء متفرّقة، لا تُبشّر بالمطر، ولا تعد بحلول فصل الشتاء، إلا أنها تخدع الرائي كليل البصر، وتخلط عليه ألوان الطيف، لا سيما إذا كان الناظر إليها قليل الخبرة في تقلّب الفصول، عديم المعرفة بعلوم الأنواء الجوية، بما في ذلك توقّعات الطقس، وتنبؤات الأرصاد في الأيام المقبلة، خصوصاً في موسم الأمطار المحتمل بدء هطولها عما قريب.
نقول ذلك كله ونحن نسمع ونرى حملاتٍ مغرضة ضد استضافة دولة قطر مونديال عام 2022، تنطلق من لدن أوساطٍ أوروبية على وجه الخصوص، بهدف التشويش على حفل الافتتاح، أو ربما التنغيص علينا، نحن الذين نترقّب بشغفٍ بالغٍ اقتراب الموعد المقرّر الذي دنا كثيراً، ولم يعد يفصلنا عنه سوى أيام معدودات، كي لا نستمتع بالمباريات فقط، وانما أيضاً بحفل افتتاح بهيج، يليق بقطر والعرب عموماً، لا سيما أننا على علمٍ مسبق بأن اللجنة المنظمّة قد أعدت العدّة اللازمة لافتتاحٍ يرفع رأس العرب في كل مكان.
وما كان لامرئ يهتم بالمنافسات الكروية، لكنه لا يضعها في بؤرة الاهتمام، المزدحم بالشؤون العامة والشجون الشخصية الكثيرة، أن يدخل هكذا على خط السجال هذا من دون مؤهلاتٍ ذاتية وثقافة رياضية كافية، للإدلاء بدلوه الصغير في لجّة بحر عميق، لولا أنه شعر في أعماقه بالاستفزاز، المشحون بالغضب والاستهجان، إزاء ما بدت له حملة منسّقة جيداً، تنطلق من عواصم أوروبية عدة، استضاف بعضها مثل هذا المونديال بصورة لائقة، ونالت حُسن التنظيم والافتتاح تقريظاً مستحقاً.
كما بدا لهذا المرء أيضاً أن تلك الأوسط المترعة بالبياض والاستعلاء العرقي تستكثر على دولة عربية صغيرة المساحة، قليلة السكان، استضافة الحدث الرياضي الأهم في عالم اليوم، وكأن هذه الدولة من العالم الثالث قد استقطعت حيّزاً ليس لها، وترشّحت لدور من اختصاص الأوروبيين وحدهم، وفق ما يدلّ عليه تاريخ المونديال في أغلب المرّات، الأمر الذي يقول لنا كلاماً مضمراً لا تقوله ألسنة القائمين على الحملة التحريضية هذه بشكل صريح، لكنه يظلّ ثقيل الوقع على الأسماع، لكل ما ينطوي عليه من غطرسة السادة المستعمرين الأوائل هؤلاء.
لو أردنا تلخيص مضمون هذه الحملة الظالمة على الدولة المستضيفة بكلمة واحدة في جملة قصيرة، لقلنا بيقين شديد إنها العنصرية الأوروبية المقيتة، وقد انجلت في هذه المناسبة الكروية الباذخة بكل وضوح، وكأن تلك العواصم التي سادت العالم في زمن مضى، واستعمرتنا في وقت انقضى إلى غير رجعة، يعزّ عليها أن ترى بلداً كان واحداً في عداد مستعمراتها السابقة، قد وقف على قدميه، اشتدّ عودُه، وصار مؤهلاً لمنافسة السادة الذين دالت دولهم الاستعمارية، إلا أن حنينهم إلى الماضي بقي يشدّهم إلى الوراء، عالقاً في البال وفي النبرة والحل والترحال.
ولعل ما يبعث على الشك وسوء الظن في كل هذا الافتراء على قطر، التي نالت شرف استضافة المونديال قبل 12 عاماً، وأعدّت نفسها على نحو جيد جداً لاستقبال هذا الحدث الكروي الجميل بكل ما يستحقه ويناسبه من متطلبات، هو هذا التوقيت المريب لهذه الحملة الرعناء، وفي الأمثال الدارجة نقول "يكاد المريب أن يقول خذوني"، وذلك إذا كان القائل شديد الانكشاف، ومن طبعه الكذب والدسّ والافتراء، فما بالك وأن من سكتوا طوال الوقت عما يعتبرونه مسّاً بحقوق العمال قد استيقظت ضمائرهم فجأة عشية افتتاح المونديال؟
كان من المحتمل أن تقع مضامين هذه الحملة المموّهة بشعارات حقوق الإنسان، وقعاً طيباً على الأسماع العربية، وأن تنال لدينا قدراً معتبراً من الاهتمام، لو أن أصحابها من ذوي السمعة الحسنة على هذا الصعيد، لا يخشون في الحقّ لومة لائم، ولا يكيلون بمكيالين، إذا كانت حقوق مثل هذا الإنسان منتهكة على طول الخط في فلسطين، وتُرتكب في حقه أبشع الجرائم خلال الليل والنهار، فيما يظل هؤلاء الغيورون على العمال الآسيويين، ممن أسهموا في بناء الملاعب والمنشآت، صامتين صمت الأموات كلما تعلّق الأمر بدولة الاحتلال الوحيد في هذا الزمان.
على أي حال، انطلق القطار بكامل قوته، وها هو يتهادى على الطريق بكل عدّته الناعمة وعتاده الإنساني الرهيف، وما هي إلا بضعة أيام تُعدّ على أصابع اليدين، حتى يصل إلى مستقرّ محطة الوصول، وتذهب حملة التحريض أدراج الرياح.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي