29 مارس 2024
العلوم الإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا
يبدأ معهد الدوحة للدراسات العليا، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، السنة الثانية من عمره. وكان في العام المنقضي حقق الكثير: ركّز القسم الأكبر من أسسه المادية واللوجستية، تزوّد بالموارد البشرية الإدارية والأكاديمية الأفضل، ركّز في اختياراته التعليمية والبحثية، مرحلياً، على العلوم الإنسانية والإدارية والاقتصادية التنموية، واستقبل نخبةً جيدةً من الطلبة الذين تقدّموا إليه من كل أرجاء العالم العربي، ومن شتاته غرباً وشرقاً، وقضوا في رحابه سنةً دراسية نشطة.
بطبيعة الحال، لا يمكن أن تحقق كل هذه البنية المادية والبشرية أهدافها التي بعثت من أجلها، من دون فلسفةٍ فكريةٍ، تكون بمثابة الموجّه الاستراتيجي العام لجهد الذين التحقوا بالمشروع. وفي العلوم الإنسانية، حدّد المعهد لنفسه هدفاً استراتيجياً طموحاً، يعرف الذين صمّموا فكرته الأولى أن تحقيقه تطلب إيماناً بالرسالة وعملاً وصبراً ومثابرة ووقتاً: وضع ركائز مشروع معرفي نقدي أصيل، ذي بعد كوني تنافسي، انطلاقا من الحياة الاجتماعية والثقافية العربية، بمكوناتها وروافدها المتعدّدة وبإشكالياتها المختلفة.
ليس هذا الهدف سهل المنال، ولا حتى واضحاً، أو حتى ممكن التحقيق، من زاوية نظر قسم كبير من النخب الفكرية والسياسية في البلاد العربية. ذلك أن صناعة الأفكار والنخب عملية اجتماعية - سياسية شديدة التعقيد، متنها التجربة التاريخية بكل كثافتها، ووعي محدّد بالذات وبمشاغلها، وجرأة على المبادرة. وتاريخياً، شهدت العلوم والنخب العربية، خلال المائة وخمسين سنة الماضية، تهميشاً وإعادة خلق خارجية، تولد عنها اغترابٌ في الفكر والوعي لقسم كبير من هذه النخب التي استبطنت نظرةً فكريةً وسياسيةً للعالم، لم تنتم في، أي يوم، إلى سياق إنتاجها الاجتماعي – التاريخي، بل حتى كانت موضوعاً لها.
تعلمت النخب الفكرية العربية الحديثة كيف تفكّر في الثقافة والدولة والدين والمجتمع برمته، عبر اكتساب نظرياتٍ وأدواتٍ معرفيةٍ، ترسخت في أعماقها تجربة اجتماعية "محلية أصيلة"، استطاعت، عبر عملية تاريخية توسعية معقدة، اختلط فيها "التنوير" بالعنف والظلم، أن تتحوّل إلى مركز منتج لشبه "المعتقدات" النظرية الكونية التي تُقاس وتُنتج بها الهامشية، ويُعرّف من خلالها تخلف الآخرين. ولفترةٍ طويلةٍ، ساد الاعتقاد بأن مصير المجتمعات التي لم تولد من رحم أوروبا، ثم فيما بعد أميركا، ولم تكن طرفاً في صناعة كونية القرنين 18- 19 الجديدة، هو التماهي مع تجربة أصحاب هذه الكونية التي هي تاريخياً وإبستمولوجياً ذات أصول ومرجعيات محلية.
تلك مرحلةٌ تكاد تشرف على الانتهاء. ففي الشرق الأقصى، وهنا وهناك في بقية العالم، بدأ فيضان الكونية ذات البعد الواحد ينحسر، على الرغم من العولمة وربما ضدها. على مستوى الظواهر، نرى ذلك في انحسار لغاتٍ بعينها، اخترعت ورسّخت بأدبها قسماً كبيراً من ملامح العصر الحديث، وفي ارتباك نظم سياسية ديمقراطية عريقة في التعامل مع المتغيرات الإثنية والثقافية التي طرأت على بلدانها نتيجة الهجرة، وفي تعرّي التناقض المريع بين خطاب نخبها الفكرية حول الحرية والديمقراطية والعدالة والممارسات السياسية الخارجية للدول التي تنتمي إليها. وعلى مستوى أعمق، ولكن بشكل مازال غير جلي، في إعادة كتابة التاريخ الجارية للكونية والمحلية. وفي محاولات إعادة الاعتبار للتفكير المحلي، في جملةٍ من القضايا الفكرية والأنثروبولوجية، وحتى السياسية، وفي مناقشة مسلمات كونية القرنين 18-19.
قوة الكونية الفكرية الحديثة مزدوجة. تكمن، في جانبٍ منها، في قدرتها على الالتقاء بالنتائج الاجتماعية لمسارات التحديث التي فجرتها عبر الاستعمار في بلدان غير أوروبية كثيرة. فتحلُلُ اقتصاديات الهبة (كما يسمها بورديو) في المجتمعات المستعمرة زاد من وتيرة التقسيم الاجتماعي للعمل، وفكّك، بنسبةٍ كبيرة، الحياة الجماعوية، ودفع إلى سوق العمل الناشئة قوةً اجتماعيةً جديدةً جبارة هي البروليتاريا، وأوجد طبقاتٍ وسطى حسّاسة للتجديد والتحديث. وعلى المستوى الأوروبي، كانت مثل هذه التحولات وغيرها هي التي شحذت، وكيّفت الفكر في العلوم الإنسانية لكي ينتج إشكالياته ونظرياته (من الصراع الطبقي إلى الفردانية المنهجية) ومفاهيمة وأدوات عمله التي أصبحت كونيةً، بحكم إيجاد التوسع الاستعماري الأوروبي كونية قسم كبير من هذه التحولات، في حد ذاتها.
أما الوجه الثاني لهذه الكونية فهو قدرة دول البلدان التي نشأت فيها هذه الكونية على تغذية "كونيتها"، عبر سياسة إنتاج النخب الفكرية والسياسية التي تحتاجها، في البلدان التي تهيمن عليها، كي تؤبد هيمنتها. ولا يقل إنتاج النخبة خطورة وتعقيدا عن إنتاج الفكرة، إذ لا قيمة عملية للفكرة من دون نخبةٍ تعيد إنتاجها وتطورّها، وتبثها في العقول والأشياء.
حينئذ، كيف يمكن تحقيق الأصالة الفكرية التي تحتاج، في حد ذاتها، إلى التوضيح، ضمن معادلةٍ قاسيةٍ مثل هذه، يصعب فيها التحرّر من الهيمنة الفكرية في ظل مساراتٍ تحديثيةٍ شاملة، أحيانا متقاطعة، وتخترقها علاقات الهيمنة. يُخطئ من يسارع برفع شعار الانغلاق والانكماش، والركون إلى وهم المقاطعة، والاعتقاد في إمكانية الانعزال الحضاري، في عصرٍ أصبحت فيه جميع الأبواب مشرعةً لمن يقدر على الولوج منها. ويخطئ، أيضاً، من يعتقد أن تقاطع المسارات يفرض المعرفة ذاتها، والوعي ذاته والرهانات ذاتها. ما الذي تبقى إذا؟ إنه إنتاج المعنى الوظيفي الملتحم بالتجربة وبالرهانات المحلية، لأن المعرفة نوعٌ خاص من أنواع إنتاج المعنى الاجتماعي للموت والحياة والعمل والحضارة. وبقدر ما تتقدّم المجتمعات في إنتاج هذا المعنى، وفي تنويعه وصقل أدوات إنتاجه، على قاعدة النقد والابداع، تتميز عن غيرها، وتدخل من الباب الكبير إلى الكونية الجديدة التي قد تتحد فيها معايير التفكير العلمي. ولكن، تتعدّد فيها معاني الحياة والحضارة التي تنتجها المعايير نفسها.
ولأن ركائز هذه المعادلة في العلوم الإنسانية هي الفكر النقدي والانتماء الحضاري واللغة، فإن معهد الدوحة للدراسات العليا عزم على الاستثمار في بناء هذه الركائز الثلاث والتعاون مع كل مؤسسةٍ تراهن على المشروع نفسه. فحظا سعيدا لهذه المؤسسة العربية الناشئة والواعدة.
بطبيعة الحال، لا يمكن أن تحقق كل هذه البنية المادية والبشرية أهدافها التي بعثت من أجلها، من دون فلسفةٍ فكريةٍ، تكون بمثابة الموجّه الاستراتيجي العام لجهد الذين التحقوا بالمشروع. وفي العلوم الإنسانية، حدّد المعهد لنفسه هدفاً استراتيجياً طموحاً، يعرف الذين صمّموا فكرته الأولى أن تحقيقه تطلب إيماناً بالرسالة وعملاً وصبراً ومثابرة ووقتاً: وضع ركائز مشروع معرفي نقدي أصيل، ذي بعد كوني تنافسي، انطلاقا من الحياة الاجتماعية والثقافية العربية، بمكوناتها وروافدها المتعدّدة وبإشكالياتها المختلفة.
ليس هذا الهدف سهل المنال، ولا حتى واضحاً، أو حتى ممكن التحقيق، من زاوية نظر قسم كبير من النخب الفكرية والسياسية في البلاد العربية. ذلك أن صناعة الأفكار والنخب عملية اجتماعية - سياسية شديدة التعقيد، متنها التجربة التاريخية بكل كثافتها، ووعي محدّد بالذات وبمشاغلها، وجرأة على المبادرة. وتاريخياً، شهدت العلوم والنخب العربية، خلال المائة وخمسين سنة الماضية، تهميشاً وإعادة خلق خارجية، تولد عنها اغترابٌ في الفكر والوعي لقسم كبير من هذه النخب التي استبطنت نظرةً فكريةً وسياسيةً للعالم، لم تنتم في، أي يوم، إلى سياق إنتاجها الاجتماعي – التاريخي، بل حتى كانت موضوعاً لها.
تعلمت النخب الفكرية العربية الحديثة كيف تفكّر في الثقافة والدولة والدين والمجتمع برمته، عبر اكتساب نظرياتٍ وأدواتٍ معرفيةٍ، ترسخت في أعماقها تجربة اجتماعية "محلية أصيلة"، استطاعت، عبر عملية تاريخية توسعية معقدة، اختلط فيها "التنوير" بالعنف والظلم، أن تتحوّل إلى مركز منتج لشبه "المعتقدات" النظرية الكونية التي تُقاس وتُنتج بها الهامشية، ويُعرّف من خلالها تخلف الآخرين. ولفترةٍ طويلةٍ، ساد الاعتقاد بأن مصير المجتمعات التي لم تولد من رحم أوروبا، ثم فيما بعد أميركا، ولم تكن طرفاً في صناعة كونية القرنين 18- 19 الجديدة، هو التماهي مع تجربة أصحاب هذه الكونية التي هي تاريخياً وإبستمولوجياً ذات أصول ومرجعيات محلية.
تلك مرحلةٌ تكاد تشرف على الانتهاء. ففي الشرق الأقصى، وهنا وهناك في بقية العالم، بدأ فيضان الكونية ذات البعد الواحد ينحسر، على الرغم من العولمة وربما ضدها. على مستوى الظواهر، نرى ذلك في انحسار لغاتٍ بعينها، اخترعت ورسّخت بأدبها قسماً كبيراً من ملامح العصر الحديث، وفي ارتباك نظم سياسية ديمقراطية عريقة في التعامل مع المتغيرات الإثنية والثقافية التي طرأت على بلدانها نتيجة الهجرة، وفي تعرّي التناقض المريع بين خطاب نخبها الفكرية حول الحرية والديمقراطية والعدالة والممارسات السياسية الخارجية للدول التي تنتمي إليها. وعلى مستوى أعمق، ولكن بشكل مازال غير جلي، في إعادة كتابة التاريخ الجارية للكونية والمحلية. وفي محاولات إعادة الاعتبار للتفكير المحلي، في جملةٍ من القضايا الفكرية والأنثروبولوجية، وحتى السياسية، وفي مناقشة مسلمات كونية القرنين 18-19.
قوة الكونية الفكرية الحديثة مزدوجة. تكمن، في جانبٍ منها، في قدرتها على الالتقاء بالنتائج الاجتماعية لمسارات التحديث التي فجرتها عبر الاستعمار في بلدان غير أوروبية كثيرة. فتحلُلُ اقتصاديات الهبة (كما يسمها بورديو) في المجتمعات المستعمرة زاد من وتيرة التقسيم الاجتماعي للعمل، وفكّك، بنسبةٍ كبيرة، الحياة الجماعوية، ودفع إلى سوق العمل الناشئة قوةً اجتماعيةً جديدةً جبارة هي البروليتاريا، وأوجد طبقاتٍ وسطى حسّاسة للتجديد والتحديث. وعلى المستوى الأوروبي، كانت مثل هذه التحولات وغيرها هي التي شحذت، وكيّفت الفكر في العلوم الإنسانية لكي ينتج إشكالياته ونظرياته (من الصراع الطبقي إلى الفردانية المنهجية) ومفاهيمة وأدوات عمله التي أصبحت كونيةً، بحكم إيجاد التوسع الاستعماري الأوروبي كونية قسم كبير من هذه التحولات، في حد ذاتها.
أما الوجه الثاني لهذه الكونية فهو قدرة دول البلدان التي نشأت فيها هذه الكونية على تغذية "كونيتها"، عبر سياسة إنتاج النخب الفكرية والسياسية التي تحتاجها، في البلدان التي تهيمن عليها، كي تؤبد هيمنتها. ولا يقل إنتاج النخبة خطورة وتعقيدا عن إنتاج الفكرة، إذ لا قيمة عملية للفكرة من دون نخبةٍ تعيد إنتاجها وتطورّها، وتبثها في العقول والأشياء.
حينئذ، كيف يمكن تحقيق الأصالة الفكرية التي تحتاج، في حد ذاتها، إلى التوضيح، ضمن معادلةٍ قاسيةٍ مثل هذه، يصعب فيها التحرّر من الهيمنة الفكرية في ظل مساراتٍ تحديثيةٍ شاملة، أحيانا متقاطعة، وتخترقها علاقات الهيمنة. يُخطئ من يسارع برفع شعار الانغلاق والانكماش، والركون إلى وهم المقاطعة، والاعتقاد في إمكانية الانعزال الحضاري، في عصرٍ أصبحت فيه جميع الأبواب مشرعةً لمن يقدر على الولوج منها. ويخطئ، أيضاً، من يعتقد أن تقاطع المسارات يفرض المعرفة ذاتها، والوعي ذاته والرهانات ذاتها. ما الذي تبقى إذا؟ إنه إنتاج المعنى الوظيفي الملتحم بالتجربة وبالرهانات المحلية، لأن المعرفة نوعٌ خاص من أنواع إنتاج المعنى الاجتماعي للموت والحياة والعمل والحضارة. وبقدر ما تتقدّم المجتمعات في إنتاج هذا المعنى، وفي تنويعه وصقل أدوات إنتاجه، على قاعدة النقد والابداع، تتميز عن غيرها، وتدخل من الباب الكبير إلى الكونية الجديدة التي قد تتحد فيها معايير التفكير العلمي. ولكن، تتعدّد فيها معاني الحياة والحضارة التي تنتجها المعايير نفسها.
ولأن ركائز هذه المعادلة في العلوم الإنسانية هي الفكر النقدي والانتماء الحضاري واللغة، فإن معهد الدوحة للدراسات العليا عزم على الاستثمار في بناء هذه الركائز الثلاث والتعاون مع كل مؤسسةٍ تراهن على المشروع نفسه. فحظا سعيدا لهذه المؤسسة العربية الناشئة والواعدة.