العزاء لخليل الحية
لا أعرف الرجل شخصياً. تابعت بعض تصريحاته، مثل بقية قادة حركة "حماس"، وتشكل لدي انطباع أنه رجل موقف صلب، أحالني، في أحيان كثيرة، إلى الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، وإن كان الأخير أكثر صلة بالإعلام، وصاحب تصريحات نارية في مرحلة كان فيها السرب الفلسطيني يغرّد لحن أوسلو البائس.
استوقفني خليل الحية صباح العشرين من يوليو/تموز الجاري، بعد ساعات من مجزرة حي الشجاعية في غزة، والتي سقط فيها أكثر من مائة شهيد فلسطيني، بينهم أربعة من عائلة خليل الحية كاملة، نجله الأكبر وزوجته وحفيد وحفيدة. وكان من الطبيعي أن تتناقل الخبر وكالات الأنباء وتفرد له حيزاً خاصاً، باعتبار أن الرجل من قيادات الصف الأول في "حماس"، ومن منطلق أن إسرائيل أصابت هدفاً كبيراً.
كان الخبر يدعو للسؤال، ما مصير خليل الحية، هل كان بين عائلته وأولاده لحظة القصف؟ لم يستمر الغموض كثيراً، وما هي إلا ساعات، حتى ظهر الحية، في مؤتمر صحفي، يعلن فيه، برباطة جأش استثنائية، أن المقاومة الفلسطينية في غزة لن تنكسر، وستهزم العدو. وفي الحقيقة، لم يضف الكثير على هذا الصعيد في اليوم الثاني عشر للعدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تبين أن المقاومة استعدت جيداً لمواجهة العدوان، ولأن إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها، اتجهت، منذ البداية، إلى ضرب الحاضنة الشعبية، وقتلت من المدنيين، هذه المرة، أضعاف ما قتلت في الاعتداءات السابقة، ومجزرة الشجاعية هي عملية انتقامية جاءت لإخراج رئيس الوزراء الإسرائيلي من ورطته أمام شارعٍ، ينتظر منه أن يقضي على المقاومة، لكي يخرج من الملاجئ، ويعود إلى حياته الطبيعية.
قرأت تصريحات خليل الحية بعد استشهاد عائلته، وأخذني التفكير بحال هذا الأب الذي فقد عدداً من أفراد عائلته في رمشة عين، ولم يبد عليه الانكسار، بل على العكس، كان صلباً، ومصمماً على القتال، وتساءلت، عن سر الطاقة التي تجعل شخصاً بهذه العزيمة. هل هو الدين وحده، والإيمان بقضاء الله وقدره، وقناعته بأن عائلته في الجنة؟ هل يكفي ذلك لكي يكفكف المرء دموعه، وتهدأ خواطره؟
ربما تفوق قناعة الإيمان كعزاء أي عزاء آخر، لكن المؤمن الحق يحب الحياة أيضاً، ويعمل من أجلها، يشقى ويتعب ليحيا، لكن حياة الذل لا تحسب للإنسان، بل تحسب له حياة الحرية والكرامة والعمل الصالح.
يجب أن يستعيد المرء شريط الأحداث في غزة ليتمكن من تفكيك بعض المعادلات التي يتطلب حلها مقاييس غير رياضية. يبدأ الشريط من الرجل المقعد، أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي وعشرات الشباب الذين سقطوا على طريق الشهادة. لا شك أن خليل الحية غير بعيد عن هذا السياق، بل هو على درب هؤلاء الذين لم يفكروا بأنفسهم، حين قرروا أن يخوضوا مسيرة الكفاح.
وبالإضافة إلى ذلك، هو رجل على طريق الحق، ومن سار على درب الحق، وآمن به، لا يرى غيره، ويهون أمامه كل شيء، ويصبح الموت والحياة احتمالين لا أكثر، معهما تكتمل قيمة الحق ولا تنقص. وهذا هو حساب المقاتل صاحب القضية والصوفي، لا يتراجع حتى حين يصعد درج المشنقة.
خليل الحية ليس فرداً يختلف عن باقي الفلسطينيين. هذا الشعب الذي لم توفر النكبات منه فرداً إلا وأصابته في الصميم. ربما هذا هو السبب الذي منع الحية من أن يميز نفسه، ويتعاطى مع استشهاد جزء من عائلته، بوصفه كارثة شخصية، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الرجل يستحق العزاء.