العروبة والمونديال

30 ديسمبر 2022
+ الخط -

ليست لي علاقة كبيرة بكرة القدم. أفضّل متابعة الدورات الأولمبية، وأستمتع أكثر بمتابعة أحيانا رياضات السباحة والدرّاجات ومسابقات الترايثلون. رغم ذلك، هناك أحداث كروية أتابعها باهتمام. وبشأن مباريات المنتخب المصري وتصفيات كأس الأمم الأفريقية أو كأس العالم تنتابني مشاعر الغيظ، كباقي المصريين، مع تكرار الفشل والإخفاقات، أصفّق وأفرح وأصيح عندما يحرز المنتخب المصري أهداف الفوز. وأتابع أيضًا مباريات الأهلي والزمالك التي يتفرّغ لها المصريون. لا بد أن أتابعها ولو من بعيد، وأتعجّب من ادّعاءات المظلومية التي يروّجها نادي الزمالك وجماهيره منذ عشرات السنين، أو تلك الروايات عن المؤامرات التي يحيكها الكون كله عن النادي.
هناك بعض أوجه الشبه بين السياسة وكرة القدم، فعلى سبيل المثال، لا بد لفريق كرة القدم من مدير فني تكون لديه صلاحيات لاختيار الجهاز الفني، وهو من يضع خطّة اللعب طبقا لظروف الفريق وإمكانات لاعبيه، ويدرس خصائص المنافسين وخريطة المنافسة. يختار العناصر الأكفأ ويضع برنامجا تأهيليا لكل فرد حسب إمكاناته أو يستبعدهم من التشكيل. في البطولات المهمة، على المدير الفني والفريق المعاون الحشد النفسي للاعبين وشحذ الهمم من أجل الفوز. كلماته قبل المباراة في أثنائها مهمة على الحالة النفسية للاعبين، والإدارة الناجحة للنادي أو للفريق تظهر على أداء الفريق وفوزه، بينما تؤدّي الإدارة الفاشلة أو الفاسدة إلى تدهور النتائج، تماما مثلما الدولة أو الحكومة التي يتأثر أداؤها بالإدارة، الأولتراس كذلك مبهرون دوما في تنظيمهم وإخلاصهم للفريق الذي يشجّعونه. كان للأولتراس دور هام في الثورة المصرية عام 2011، ولعل إعلانهم آراء سياسية في الملاعب كان السبب الرئيسي في منع الجماهير المصرية من حضور المباريات في مصر.
 تابعتُ بطولة كأس العالم في قطر، وكيف لا أتابع هذه البطولة الفريدة من نوعها، فقد أقيمت في دولة عربية، وهذا في حد ذاته إنجاز ومكسب كبير، وكانت على قدرٍ عالٍ من التنظيم البديع، كما أن اختلاط الثقافات يحدّ كثيرا من مشاعر التطرّف، فتعرّف كثيرون على الحضارة العربية الإسلامية عن قرب، وإن كان المشهد ليس بهذه المثالية، فقبل البطولة كان هناك شحن كثير في أوروبا بشأن موضوع المثلية الجنسية. في هذه الأثناء، كانت ردود الحكومة القطرية شديدة الديبلوماسية. وفي أثناء البطولة تصاعدت حدّة هجوم وسائل إعلام غربية ضد قطر، خصوصا في قضية التعبير عن المثلية أو في حرية شرب الكحوليات، وظل هذا الشدّ والجذب خلال فترة البطولة برمتها.

الالتفاف، والتضامن الجماهيري العربي حول الفرق العربية في مباريات كأس العالم، كان ملفتا

بعيدا عن تلك المعركة، ظهرت في المونديال نقاط في غاية الإيجابية. كانت عودة تنشيط مشاعر العروبة والتضامن العربي مكسبا كبيرا. الالتفاف، والتضامن الجماهيري العربي حول الفرق العربية في مباريات كأس العالم، كان ملفتا، فالجماهير العربية تراصت على المقاهي في جميع البلدان لمشاهدة المنتخبات العربية طوال البطولة. تذكّر العرب عروبتهم مرة أخرى بفضل كرة القدم هذه المرّة. رقص كثيرون فرحا لفوز السعودية المفاجئ على الأرجنتين، بكى بعض العرب بعد الخروج المشرّف لأبطال المغرب في الدور قبل النهائي.
وهناك مشاهد مقاطعة وسائل الإعلام الإسرائيلية ورفع العلم الفلسطيني أمامها. كانت مشاهد مبهجة تؤشّر إلى أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة في القلوب العربية، وأن مساعي التطبيع مع دولة الاحتلال حكومية غير مقبولة من الشعوب العربية. يذكّرنا هذا أيضا بفترة الثورات العربية التي اعتبرتها إسرائيل تهديدا كبيرا لها بسبب تأييد الشباب العربي الحقوق الفلسطينية، فدولة الاحتلال بالتأكيد تستطيع الحصول على حلفاء بسهولة من الحكّام الديكتاتوريين، فهم يسعون لنيل الرضا الأميركي وتعامي الولايات المتحدة عن انتهاكات حقوق الإنسان عن طريق التطبيع مع إسرائيل.
العروبة موجودة في قلوب الشعوب العرب. لمسنا هذا في عام 2011، وفترة انطلاق الثورات العربية. كان الإحساس بالانتماء العروبي طاغٍيا وقتها، عندما كانت أفكار الثورة تنتقل من الشباب من بلد إلى بلد، عندما كان الأمل عند كل الشباب العربي في إقامة أنظمة حكم جديدة تحترم الكرامة الإنسانية. وقتها، عاد الحلم العربي بأن يستطيع العرب التنقل بحرية في الوطن العربي بدون قيود أو حدود، أو يُقام نظام عربي جديد يعطي الأولوية للشعوب، وليس لرغبات العائلات الحاكمة وأطماعها. وقتها، كان هناك آمال وأحلام بإمكانية تأسيس عهد عربي جديد يكون الشباب العربي دعامته، وإلى التوصل لصيغة للتكامل العربي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لمصلحة الشعوب في الأساس.

كانت الضربة الكبرى لمشروع القومية العربية مع هزيمة 1967، والتي كانت نتيجة للمناوشات السياسية والخطابية بين القوميين أنفسهم

تصدّعت العروبة على يد الحكام العرب، وليس بسبب المؤامرات المزعومة، فكل من تشدق بالقومية والوحدة كان له مشروع الزعامة الخاص وأوهامه الخاصة، فتمزّق الوطن العربي بين عدة مشروعات للقومية العربية المتصارعة والمتصادمة، القائم كل منها على الزعيم الأوحد الذي لا يخطئ، فقد تحوّل النظام البعثي مثلا بعد فترة إلى بعث طائفي، بعدما كان يدعو إلى العروبة والقومية، ثم تحوّل إلي البعث العائلي بعد تولي بشار الأسد الحكم في سورية، وقبل ذلك ظهور نوايا صدّام حسين في تولي أبنائه الحكم في العراق. وشهدت المنطقة العربية صراعات عنيفة دموية بين الناصريين والبعثيين في الستينيات، على الرغم من أنهم كانوا ينادون بالقومية العربية والوحدة، بل كانت الصراعات الدموية داخل الأحزاب القومية والبعثية نفسها بحثا عن سلطة أكبر لكل فريق، وكانت الضربة الكبرى لمشروع القومية العربية مع هزيمة 1967، والتي كانت نتيجة للمناوشات السياسية والخطابية بين القوميين أنفسهم. وفي السبعينيات، كانت المناوشات بين الرئيسين المصري أنور السادات والليبي معمّر القذافي، إلى أن كانت النهاية مع احتلال العراق الكويت، على يد نظام صدّام حسين الذي كان يتشدق هو أيضا بالقومية والعروبة.
المشترك في تجارب الحكم تحت شعار القومية والوحدة هو السلطوية والديماغوجية وقمع الحريات، نموذج الدولة الأبوية الذي لا نزال نعاني منه، رغم رفع شعارات الاشتراكية وقتها إلا أنها كانت تجارب يمينية متطرّفة، فتحولت كل تجارب القومية إلى تجارب ديكتاتورية إقصائية أدّت إلى كوارث لكل المنطقة العربية. لذلك، أميل إلى التصنيف الذي يفرّق بين القومية العربية والعروبة، فالعروبة مفهوم أوسع وأشمل يخلو من الأطماع السياسية، في مفهوم العروبة دلالة على الهوية واللغة والثقافة المشتركة. أما مفهوم القومية فهو، في مستوى معيّن، نابع من الأفكار اليمينية، الفاشية والنازية كذلك وتجارب الحكم الديني وكل أيديولوجيات كراهية الآخر تنتمي للمنبع نفسه.

كرة القدم العامل المشترك الذي يقرّب بين القلوب العربية، ولكن يجري استغلالها أيضا لإحداث شروخ في علاقات الشعوب العربية بعضها ببعض

مشاريع حكام عرب وأطماعهم الشخصية هي التي وقفت عثرة أمام حلم التكامل العربي، حتى في كرة القدم يستغلونها بشكل سيئ لدعم كل حكومة على حساب الأخرى. وتُعتبر كرة القدم العامل المشترك الذي يقرّب بين القلوب العربية، ولكن يجري استغلالها أيضا لإحداث شروخ في علاقات الشعوب العربية بعضها ببعض. وفي البال أزمة مباراة الجزائر ومصر التي كادت في العام 2009 أن تشعل خلافا كبيرا بين شعبي البلدين الشقيقين. تعرضت حافلة الفريق الجزائري للرشق بالحجارة من بعض المتعصبين، ثم كان هجوم جماهير الجزائر على الفريق المصري والجماهير المصرية في الخرطوم، ثم هجوم جزائريين على مقرّات شركات مصرية في الجزائر، وتظاهر مصريون أمام السفارة الجزائرية في القاهرة، أجّج ذلك الشحن الإعلامي الرسمي في القاهرة والجزائر، فكانت وسائل الإعلام في البلدين تتعامل كأنها في حرب تحرير ضد الدولة الأخرى، وحدث شرخٌ كبير بين الدولتين الشقيقتين، وسط ذلك التلاسن والتحريض الإعلامي. وكان للقيادات السياسية دور كبير في هذا. وفسّر كثيرون ما حدث وقتها بأن نظامي الحكم في البلدين أرادا افتعال معارك وهمية للتهرّب من المشكلات الداخلية المتشابهة التي كان يعاني منها الشعبان المصري والجزائري. وهذا ما نراه أيضا في وقتنا الحالي عندما تنطلق وسائل الإعلام الموالية للحكومة لمهاجمة شعب دولة أخرى أو ثقافتها أو تاريخها، إذا صرّح أحد أفرادها أو رموزها برأي مخالف لحكومة الأولى وسياساتها.
الحكومات ووسائل الإعلام الموالية هي ما تشعل دوما تلك المعارك الضيقة التي تخرّب وتؤدي إلى تآكل ما تبقّى من مشاعر العروبة. وعند الحاجة تدعم الأنظمة بعضها بعضا وتتعاون في قمع الثورات ومنع انتقال مطالب الحرية والديمقراطية من بلد إلى آخر. وعند تعارض مصالح الحكام أو تصادمها تتصاعد النبرة المعادية لباقي العرب والداعمة للقُطرية والتقوقع. أما الشعوب فهي دوما تبحث عن المشترك بينها، وشعوبنا العربية تشترك في المعاناة من الظلم نفسه، ومن الحكم السلطوي المستبد نفسه. ولذلك فرح العرب لإنجازات منتخب المغرب، ونحن نتشوق لأية إنجازات في واقعنا البائس.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017