العرب وأزمة الإيديولوجيا المغلقة
يعتبر مفهوم الإيديولوجيا من أكثر المفاهيم في الحقول المعرفية المتنوعة شيوعاً واستخداماً، وأكثره غموضاَ وتلوّناً وتشعباً عند مستخدميه ومروّجيه.
وبعيداً عن تفاصيل التعاريف المتعدّدة للمفهوم، يكفي حصر التعريف في نوعين، فهناك الإيديولوجيا المفتوحة المبنية على قاعدة الحياة الإنسانية المتغيّرة، والتي تسير على خطى التطوّر والارتقاء، وتعتمد على عقيدة التغيير والحركة في الحياة البشرية، وهناك الإيديولوجيا المغلقة التي تدّعي امتلاك حقيقة مطلقة تامة كاملة، ولا ترى الحقّ والحقيقة إلا لديها، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسّها لمشروعاتٍ أو نظرياتٍ مغايرة أو مختلفة معها، أي أنّ هذا التعريف يعتمد على التفريق بين الإيديولوجيات المتفاعلة والقابلة للتعّاطي مع غيرها وتبادل التأثير معها، والتي تتعلّم بعضها من بعضها وتتقبّل النقد الداخلي، وتستعير الأفكار وتتبادلها، وبين الإيديولوجيا المغلقة التي تفتقد إلى هذه الخصائص، وتطالب بالاعتراف الكامل، ولا تقبل بديلاً.
ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة ما يشهده الفكر السياسي العربي من طغيان الإيديولوجيا المغلقة فكرياً وسياسياً وحتى دينياً، فالمتأمل لمجمل المشهد السياسي العربي، وفي أغلب الدول العربية، يخلص إلى أننا ما زلنا نعيش في زمن تجاوزه الزمن بعقود، فالعالم اليوم تجاوز الإيديولوجيات المغلقة، وأصبح يعيش في عالم ما بعد الإيديولوجيا، حتى أنّ الأحزاب الإيديولوجية القديمة تغيّرت، وانفتحت على الأفكار التي كانت تراها رجعية ومعادية، في حين أنّ الفكر السياسي العربي لدى أحزاب وقوى سياسية عربية عديدة لا يزال مسجوناً في التجارب التاريخية البعيدة، فأغلب المتأدلجين العرب لا يزالون يرقون بالأفكار والأشخاص إلى درجة التقديس، وبالإيديولوجيا إلى مقام الكلام المُنَزّل الذي لا يحتمل النّقد، بل تبلغ ببعضهم العصبيّة الإيديولوجيّة درجة تصنيف النّاس بحسب هويّتهم السياسية، أو قربهم أو بعدهم عن أفكارهم وإيديولوجيتهم، وغالباً ما تكون هذه التصنيفات استبعاديةً في سلوكها السياسي، تشرخ المجتمع إلى قسمين: من هم معها ومن هم ضدها، ولا ثالث بينهما، بل إن من ليس معها فهو ضدّها، لتجرّم بذلك الفكر النّقدي عملاً بشعار "من خالفني الرّأي فهو عدوّي"، وتصبح بذلك الإيديولوجيا باباً لإقصاء الآخر والانكفاء على الذات، وهو ما يتعارض مع المصلحة الوطنيّة التي تقتضي توظيف الاختلاف لإغناء المشهد الثقافي وتنويع الفضاء السياسي وإثراء المشهد الحضاريّ.
لا يتعامل أغلب العقل العربي مع الإيديولوجيا باعتبارها منظومة فكرية نامية، مفتوحة على الواقع، وقابلة للتطوير والتغيير، بل يرى فيها عقيدة مقدّسة، تتضمّن أجوبة نهائية، وأحكاماً مثالية، لا تقبل النقد أو المراجعة أو التنسيب، لذلك يدّعي جلّ المتأدلجين العرب امتلاك الحقيقة المطلقة، وينشدّون إلى شعاراتٍ قديمة، يعتبرونها عناوين حلولٍ ممكنةٍ لمعضلات الوضع العربي الراهن، ومن ذلك القوميين الذين لا يزالون يتشبثون بفكرة الوحدة العربية ونموذج الدولة الناصرية، واليساريين الذين لا يزالون يردّدون مقولات رفض الخصخصة، ونقض الرأسمالية.
فكر الاختلاف والانفتاح على الأفكار الأخرى هو الذي يدفع بالحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى مزيدٍ من التقدّم والثراء والتعايش
وبالتالي، لا يبحث حامل الإيديولوجيا المغلقة عن فهم الواقع بقدر ما يفتّش في الواقع ومستجدّاته باستمرار عمّا يبرّر له أحكامه المسبقة وتصوّراته المعلّبة، مثله في ذلك كمثل البائع المتجوّل الذي يجوب الأرض، محمّلاً ببعض الصناديق والقوالب الجاهزة، ولا يملّ من تكرار محاولاته الفاشلة، لحشر العالم برمّته فيها.
لن يجد العقل السياسي العربي إذ ما استفحلت به الإيديولوجيا المغلقة، في كلّ مستجدّ دولي أو إقليمي أو حتى وطني، إلا كل ما يلزم من خلاصات ودلالات لتبرير قناعاته السالفة، وتسويغ كلّ مواقفه وخيارته السابقة، حتى التي تخصّ أبسط عاداته اليومية، وذلك ما يُحدِث إشكالاً مزمناً في تقدير الموقف السياسي، ويقود باستمرار إلى أخطاء فادحة في عملية صناعة القرار، فضلاً عن إسهامه من مواقع متقدّمة في كبح مسارات التقييم والمراجعة، خصوصاً في حمأة الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوبائية، وحتى البيئية التي نعاني منها بكثرة نحن العرب، وكذلك في ظروف الإحباط التي تمرّ بها المجتمعات العربية المحكوم أغلبها بالطغيان والفساد.
لذلك، من باب أولى لنا، نحن العرب، ألا نسجن عقولنا داخل إيديولوجيا حديدية مغلقة، تكتسب طابعاً عنصرياً إقصائياً نحاول تبريرها طوال الوقت، لنجد أنفسنا، في نهاية الأمر، أسرى سياج أو قفص حديدي من الأفكار تجعلنا غير متقبليّن أي أفكار جديدة أخرى، باعتبار أنّ الأفكار القديمة كافية جداً، بل علينا أن ننفتح على كل الأفكار ونتقبّل فكر الاختلاف ونقف على مسافة واحدة من الجميع، ليتأسّس وعي عام حقيقي، يقوم على المعرفة والتفسير، وليس الإيديولوجيا المغلقة والتبرير، ففكر الاختلاف والانفتاح على الأفكار الأخرى هو الذي يدفع بالحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى مزيدٍ من التقدّم والثراء والتعايش، بعكس الخطاب الأيديولوجي المغلق الذي ينزع إلى الجمود والتشبث بمصالح فئوية ضيقة، سعياً إلى استمراريته.