العرب في مؤشّر البؤس ... اليأس أيضاً
يمكن القول إنه أُريدَ لقمّة جامعة الدول العربية في جدة أخيراً أن تكون تأبيناً رسمياً لعصر الاحتجاج الجماهيري العربي الذي انطلقت أولى موجاته في تونس سنة 2010. كذلك أن تُوْصِل رسالة إلى الشعوب العربية مفادها بأن ذلك العصر قد ولّى، ولم نُبقِ لكم سوى اليأس عليكم التأقلم معه بقية حياتكم أو المغادرة. وبالتزامن مع تلك القمة، في 19 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، صدر "مؤشّر البؤس العالمي" لسنة 2022 عن جامعة جون هوبكنز، فكانت النتيجة أن لاحظنا تبوؤ أربع دول عربية بجدارة رأس قائمته التي تضم 157 دولة. وتؤكّد هذه النتيجة أن تلك الحفاوة التي لاقى الحكّام فيها بعضهم، وتلك البهرجة اللافتة في قمة جدّة، والتي بدت وكأنها صورة أتت من كوكبٍ آخر، ليست سوى قمّة لحكّام منعزلين عن شعوبهم الذين تركوهم في تعاسةٍ، هي من الشدّة إلى درجة أصبحت معها موضوع دراسة في جامعات الآخرين.
لم يغادر العرب مرّة هذا المؤشّر، وقد احتلّوا مرّات عديدة قمّته أو مرتبات تلي القمة، على الرغم من أنهم قابعون على ثرواتٍ باطنيةٍ، وتتوفر لهم مقوّمات اقتصادية تعطيهم الإمكانية لتحقيق النمو المتوازن والتنمية المستدامة، وعوامل نهوض الاقتصاد الكلي لتحقيق هذه التنمية. غير أن اللافت أن أربع دول احتلت رأس القائمة، بدايةً من سورية التي كان ترتيبها الثالث عالمياً والأولى عربياً، تلاها لبنان والسودان، ثم اليمن في المركز السابع. كما احتلّت ليبيا المركز 30، تلاها الأردن، إضافة إلى احتلال الجزائر وتونس والعراق ومصر والمغرب مرتبة في مؤشّر التعاسة هذا، ولو اختلف الترتيب. ما يعطي انطباعاً أن الدول العربية، دون غيرها، تشترك بعوامل تسبّب لها هذا التراجع على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي الذي سبب التعاسة لشعوبها. ويعتمد المؤشّر في تحديد مدى سعادة شعوب كل دولة أو تعاستها، على معطياتٍ وبياناتٍ أهمها معدّلات البطالة وانتشارها، والتضخّم ومعدّلات الاقتراض والتكاليف الباهظة المترتبة عليه وتأثيراتها على أحوال الشعب ونمط حياته. وهي المعدّلات التي تتفاوت بين دولة عربية وأخرى، غير أن كثيراً منها تشترك بعوامل باتت مزمنة، وهي البطالة وازدياد معدلات التضخم، بل انهيار قيمة العملة الوطنية نتيجة أداء حكوماتها السلبي.
إذا كان التبئيس سياسةً، سيكون التيئيس نتيجة لتلك السياسة، وهو ما يمكن أن يعيد الشعوب إلى المربّع الأول
تخلّت معظم أنظمة الدول العربية عن الشروط الضرورية لإدارة اقتصاداتها، ومنها من أصيب بنكوص حوَّل اقتصاد بلاده الذي كان متطوّراً في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته إلى اقتصاد ريعي، لا يعتمد على الثروات الباطنية في دخله القومي بقدر اعتماده على الضرائب في رفد خزينة الدولة بالمبالغ اللازمة لعملية الإنفاق الضرورية. لكن، ولزيادة الطين بلّة، سمحت أنظمة كثيرة للفساد أن يتطوّر ويتغلغل ليصبح نمطاً لإدارة مفاصل الدولة، وهو ما عجَّل في وصول عدد كبير من هذه الدول إلى حافّة الانهيار الاقتصادي، يحوِّلها إلى دول فاشلة لم تنجح حقن الإنعاش المالية التي تأتيها، بين الفينة والأخرى، من دول الخليج العربي الثرّية في وقف ذلك الانهيار.
ولا يمكن إهمال دور القمع، ودور الثورات المضادّة التي ضربت الدول التي شهدت موجات الربيع العربي، في انهيار الدول التي شهدت تلك الموجات، وفي زيادة شقاء شعوبها، نتيجة دور النخب الحاكمة في تعميق الأزمات الاقتصادية وزيادة التضخّم ومعدّلات البطالة والفقر والتفاوت الطبقي. ولم ينعكس دور النخب الحاكمة هذا في فقدان قدرتها على ضبط إيقاع الانهيار، بل أدّى إلى فقدان الشعوب ثقتها بهذه النخب، وهو ما أوصلها إلى مرحلة اليأس. فإذا كان التبئيس سياسةً، سيكون التيئيس نتيجة لتلك السياسة، وهو ما يمكن أن يعيد الشعوب إلى المربّع الأول الذي كانوا فيه عشية اشتعال شرارة ثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من سطوع هذه الحقيقة وخطورة هذا الأمر، تتناساه الأنظمة العربية المعنية، أو تحاول إنكاره ملقية كل اللوم في هذا الوضع على تلك الثورات وليس على سياساتها. وفي ممارستها هذا الأمر، تعود الأنظمة إلى سياسة دفن الرؤوس في الرمال، تاركةً شعوبها تواجه مشكلاتها وحيدة، مع زيادة ملحوظة في نسبة القمع ومصادرة الحريات.
من أدخل الناس في نفق هذا البؤس ظنّ أنه لم يُبق لهم سوى اليأس الذي زاد الألم لديهم وقطع الأمل، إلا أنه لم يستطع منعهم من أن يحلموا
صدر هذا المؤشّر قبل يومين من التئام قمّة جدّة، وفيه من المعطيات التي تدل على خطورة الوضع في عموم الدول العربية، ما كان يجب أن يدفع القمة إلى أن تخصّص قسماً كبيراً منها للتفكّر فيه، لأنه ينطوي على محاذير كثيرة على الحكّام يأخذوها باعتبارهم، بينما هم يتابعون أعمال قمّتهم، أو وهم عائدون في طائراتهم إلى نعيم قصورهم. ولكن كما بدأت القمّة والشعوب العربية مغيّبة عن أعمالها، كذلك ختمت، وكأن جميع الحاضرين غير معنيين بما يُسمّى شعباً. يبدو أنهم لم يجتمعوا على هذا الودّ إلا بعد أن تأكّدوا من تهاوي شعوبهم في آبار اليأس. أليسوا هم من أوجدوا هذا البؤس؟ رفعوا كثيراً من الشعارات، وطرحوا خططاً ومبادرات كثيرة لنمو المنطقة العربية اقتصادياً وزيادة استقرارها. لكن، وكما في كل القمم، لا آليات للتنفيذ، وكأن الهدف من هذه القمم حشد أكبر عدد من الزعماء للصورة الجماعية، لتكتمل الصورة بابتسامة رضى، وينقضي الأمر.
إذا كان مؤشّر البؤس يتحدّث عن معطيات السنة الماضية التي أفضت إلى النتيجة التي أوردها في قائمته، فإن القمة العربية جاءت لتكرس هذا البؤس، وتقول لمن يعنيه الأمر، أو من لا يعنيه: إن تغييراً في الحال الذي وجدتم أنفسكم عليه ليس متاحاً، وفي حالاتٍ كثيرة ممنوعاً، فهل ستنفع الملاءات الثقيلة التي ألقيت على كل تلك الآلام في إخفاء كل هذا البؤس؟ قد تنفع لأيامٍ وربما أشهر أو سنوات، غير أن من أدخل الناس في نفق هذا البؤس ظنّ أنه لم يُبق لهم سوى اليأس الذي زاد الألم لديهم وقطع الأمل، إلا أنه لم يستطع منعهم من أن يحلموا، ولكن، أي حلم؟