العراق: قاتل مجهول معلوم
يواجه الناشطون المدنيون في العراق عملية تصفية ممنهجة، ارتفعت وتيرتها في الأشهر الأخيرة. قلة تلك التي تجرؤ اليوم على توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى المنفذ والمخطط الذي يستهدف أبرز الوجوه الفاعلة في انتفاضة العراق التي بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فلا أحد يريد أن يواجه المصير نفسه. يكتفي كثر بالتلميح. يتحدّثون عن الإمكانات المتوفرة للمنفذين وأهدافهم، كما عن تقصير فاضح من الحكومة في ملاحقة المتورّطين، وكأنها تقول للناشطين فلتدبروا أنفسكم بأنفسكم. إمّا أن تتمكّنوا من النجاة بالاختباء أو الفرار خارج محافظاتكم أو حتى من العراق، أو أن تواجهوا مصيركم المحتوم اختطافاً ثم تعذيباً وقتلاً ثمناً لـ"تمرّدكم".
جل ذنب هؤلاء أنهم خرجوا إلى الشوارع مطالبين بتغيير حقيقي، لا على غرار شعارات التيار الصدري وباقي الأحزاب، الشكلية، والتي تضمر أكثر مما تظهر. لم ينجرّ الناشطون إلى فخ اتهام قوى سياسية دوناً عن غيرها بالفساد، فردّدوا شعار "شلع قلع واللي قالها وياهم"، قاصدين مقتدى الصدر الذين كان أول من أطلق شعار "شلع قلع"، محاولاً الترويج والإيهام أنه من خارج هذه الطبقة الواجب استئصالها.
بالنسبة إلى المحتجّين، يتحمل الجميع المسؤولية عمّا آل إليه الوضع في العراق عقب الاحتلال الأميركي. بلد النفط يعاني الفقر والجوع والعوز والدمار. مليارات الدولارات تُنهب سنوياً وتتسرّب إلى جيوب السياسيين ومن يحومون حولهم، فيزدادون إثراءً غير مشروع، بينما يئنّ الشعب من وطأة الأزمات والتهجير، ويتراجع مستوى التعليم والطبابة، فيضطرّون للبحث عن منحة دراسية أو علاجية في الخارج، غالباً ما تقدّم لهم منّةً لا حقّا.
خطورة الناشطين بالنسبة إلى هذه الطبقة السياسية ومن يدعمها أنهم أثبتوا امتلاكهم، منذ اليوم الأول لحراكهم، ما يكفي من الوعي لإدراك أن التغيير لا يمكن أن يحدُث بين ليلةٍ وضحاها، وأن تظاهرة هنا أو هناك على فتراتٍ متباعدةٍ زمنياً لن تنتج شيئاً في مواجهة طبقةٍ سياسيةٍ متجذّرة في الحكم منذ أكثر من 15 عاماً تتبدّل وجوه فيها من دون أن يتغير نهجها. لهذه الأسباب، اختاروا استراتيجية واضحة في إدارة الانتفاضة عبر الضغط المكثف والمتواصل من بوابة الاعتصامات الثابتة. وعلى الرغم من كل القمع الذي تعرّضوا له، أثبتوا قدرة على الصمود وعدم الانجرار إلى مربع الاستفزازات. والأهم كان يقينهم المبكر أن إحداث تحوّل حقيقي في العراق لا يقتصر على بضع مطالب اقتصادية واجتماعية ترفع، فالمعركة ليست ضد الفساد فقط، بل ضد الطائفية وويلاتها، ومن هنا حضر شعار "العراق المدني خيارنا" وقد أطلقه الناشط صلاح العراقي الذي اغتيل أخيراً.
بدا من جميع تحرّكاتهم أنهم استفادوا من دروس الموجة الأولى من الثورات العربية قبل عقد، فلم يكتفوا ببضعة شعاراتٍ، بل طرحوا مطالبهم بوضوح، خصوصاً السياسية منها، وفي مقدمتها تغيير قانون الانتخابات، لادراكهم أنه المسؤول عما يفرزه الصندوق من مصائب، لكنهم تعثّروا في تنظيم أنفسهم في أحزابٍ وحركاتٍ سياسية جديدة تمثلهم.
لكل هذه الأسباب، يمكن فهم لماذا هيمن شعور القلق الدائم من المحتجّين، وبشكل خاص الناشطين. لكن أكثر ما يثير الهلع منهم طرحهم الرافض التبعية والارتهان للخارج، وهو ما يجعل قوى سياسية وتشكيلات عسكرية تعتبر أنها مهدّدة في وجودها، فاستحضرت كل ما في جعبتها من اتهاماتٍ بحقهم، فتعرّضوا للتخوين والاتهام بالعمالة والتشكيك بأهدافهم. وعندما فشلت جميع محاولات الترهيب، تم الانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ عنوانها تصفية أكبر قدر ممكن منهم. وذلك كله يجعل الفاعل معلوماً وليس مجهولاً.