العراق في انتظار الفوضى
فشل مجلس النواب العراقي في عقد جلسة قانونية للتصويت على انتخاب رئيس للجمهورية، بعد أن قوطعت من كتل وأشخاص، ما أخل بالنصاب القانوني لها؛ حيث حضر 58 نائباً من أصل 329 عضواً للمجلس. وجاء التعطيل المتعمّد بعد خطوة سبقته تمثلت بإعلان القضاء العراقي تعليق ترشيح هوشيار زيباري لمنصب رئاسة الجمهورية، بداعي تورّطه في ملفات فساد خلال توليه وزارتي الخارجية والمالية في حكومات سابقة.
وقد جاء هذا القرار القضائي وفق توقيتٍ يُراد به تفويت الفرصة على تحالف الصدر و"السيادة"، إضافة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، من تثبيت حظوظ مرشّحهم، زيباري، وإبطال خطط الإطار التنسيقي، ومعه الاتحاد الوطني الكردستاني، الرامية إلى إعادة ترشيح برهم صالح لولاية رئاسية ثانية؛ فكانت المقاطعة جماعية والفشل في تحقيق النصاب القانوني مؤكّدا.
المشهد المتعلق بجلسة إنتخاب رئيس الجمهورية بما يحتويه من سلوكيات غير مسؤولة تجاه استحقاقات وطنية ودستورية تُعطي دلالاتها تجاه مستقبل العراق الضبابي والمضطرب؛ فالعراقيون تعاملوا بسخرية ممزوجة بالألم مع ورود أخبار الكتل المتصارعة في المشهد السياسي العام، بدءاً من قرار مقتدى الصدر في 5 فبراير/ شباط الجاري تعليق مفاوضاته الخاصة بتشكيل الحكومة المقبلة ومقاطعة الجلسة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، ثم تبعه في اليوم التالي إعلان حليفه "تحالف السيادة" الذي يضم 51 نائبا بزعامة رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، بمقاطعته الجلسة. وكذا فعلت كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني التي ينتمي إليها زيباري، والمؤلفة من 31 نائبا بمقاطعتها الجلسة.
تزايد عدد الاغتيالات النوعية لقضاة وضباط وناشطين بشكل مستفز وسافر
ازدادت صورة المشهد السياسي والأمني العراقي قتامة مع تعدّد زيارات قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، العراق، وسلسلة اجتماعاته مع الإطار التنسيقي للتعامل مع التيار الصدري، وتحديداً مع زعيمه، مقتدى الصدر، والذي زاره قاآني أيضاً في 8 فبراير الجاري في الحنانة بمدينة النجف الأشرف، في محاولة منه لتطويع الصدر، من أجل القبول بحكومة توافقية تسمح لكل أطراف الإطار التنسيقي والقوى السنيّة والكردية بالمشاركة فيها؛ حفاظاً على مصالح إيران في العراق، من دون مراعاة لإرادة الشارع العراقي الذي رفض التصويت لأغلب قوى الإطار خلال انتخابات 10 أكتوبر/تشرين الأول، على الرغم من هزالتها. استمع مقتدى الصدر لحديث القائد في الحرس الثوري الإيراني، ولم يصدر مكتبه الإعلامي أي بيان أو توضيح بشأن ما دار بينهما، لكن دلالات نتيجة اللقاء فسّرتها تغريدة الصدر على "تويتر" التي ذكر فيها: "لا شرقية ولا غربية، حكومة- أغلبيةـ وطنية".
تتسع دائرة الخلاف والاختلاف بين مكونات العملية السياسية المهلهلة في العراق، كما تتوالد في البلد المشكلات والأزمات طوال الأعوام الثمانية عشر الماضية، وتنوّعت المصائب على المواطن العراقي ومؤسسات الدولة الخدمية بسبب تصاعد مستويات الفساد والإرهاب والترهيب والقتل والاختطاف وانتشار السلاح المنفلت بين المليشيات وسحق آمال الشباب وطموحاتهم من خلال إشاعة المخدّرات وتسهيل وصولها إليهم لإخراجهم من دائرة الوعي، وبالتالي، تأجيل الحراك الجماهيري القادر على تخليص العراق من كل ما تقدّم.
من المؤسف والغريب أن تفتح حدود العراق ليدخلها المتدخلون في شؤونه الداخلية والإقليمية، من دون أن تحرّك الحكومات العراقية أي ساكن؛ بل لا تتناول وسائل إعلامه الرسمية خبر وصول قادة ومسؤولين من دولة مجاورة للعراق كزيارات قائد فيلق القدس الإيراني، سواء السابق قاسم سليماني، أو الحالي إسماعيل قاآني، واجتماعهما بمسؤولين وقادة لحركات وأحزاب من أجل ترقيع العملية السياسية والإبقاء على مراكز مصالح وقوة إيران في العراق، والأغرب ألا تعتبر حكومات العراق هذا الحراك (المكشوف) تدخلاً في شؤونه الداخلية.
إصرار المليشيات وقوى الإطار التنسيقي على إرباك المشهد السياسي في العراق ينذر بفوضى
الفلتان المنظور وغير المسؤول الذي يعمّ العراق من شماله إلى جنوبه، والذي تجاوز حدود العراق، ليصل مداه إلى بعض الدول الإقليمية المجاورة للعراق، أو الواقعة ضمن محيطه الحيوي، كعملية ما تسمى "ألوية الوعد الحق" التي أرسلت طائرات مسيّرة لتضرب أهدافاً في دولة الإمارات، ثم انتشار ألوية من قوات الحشد الشعبي كـ "حزب الله" و"عصائب أهل الحق" و"النجباء" وغيرها في مناطق من محافظة الأنبار وصلاح الدين وقصف مناطق سكنية تخصّ رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، وكذلك رموزا ممثلة للقوى المتآلفة مع التيار الصدري من السنّة والأكراد، إضافة إلى تزايد عدد الاغتيالات النوعية لقضاة وضباط وناشطين بشكل مستفز وسافر، وذلك كله ينذر بفوضى عارمة مقبلة لتعم العراق من أقصاه إلى أقصاه وسط تعامل مثير للاستغراب من حكومة مصطفى الكاظمي التي اكتفت بتشكيل مجالس تحقيق، من دون نتائج ملموسة بحق الجناة ومن وراءهم.
إصرار المليشيات والقوى المنضوية ضمن الإطار التنسيقي على إرباك المشهد السياسي في العراق ينذر بفوضى عارمة تؤكد فيما تريد أن تؤكده على قدرة هذه القوى على العبث بمقدّرات العراق والمنطقة، فيما لو لم تلبّ مطالبها بحكومة عراقية توافقية، بدلاً عن الأغلبية التي تسعى الكتل الفائزة إلى تكوينها. وقد أكد هذا الموقف إسماعيل قاآني عند لقائه مقتدى الصدر ومن قبله الحلبوسي وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، حيث أبلغ الجميع رفض ايران المضي في تشكيل حكومة الأغلبية على حساب وحدة البيت الشيعي، والذي يهدّد الأمن القومي الإيراني. مطالبا الجميع، كل طرف من جانبه، بالتدخل لرأب الصدع داخل المكون الشيعي، وهو ما كان في اجتماع الحنانة، والذي انتهى أيضاً بتغريدة صدرية نصها "لا شرقية ولا غربية، حكومة - أغلبية - وطنية".