"العدل الدولية" والعزلة الإسرائيلية
لا يمكن إلا اعتبار قرار محكمة العدل الدولية تاريخيّاً بكل حيثياته، حتى وإن لم يتضمن مطالبةُ بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، فالقرار التمهيدي الذي صدر يوم الجمعة وضع إسرائيل في دائرة الاتهام الدولية، وفرّغ كل ذرائعها في شن العدوان على غزّة من مضمونها، سواء في ما يتعلق بحقّ الدفاع عن النفس أو "الرد على الانتهاكات التي ارتكبت ضدها في عملية السابع من أكتوبر". القرار الدولي يضع إسرائيل عالمياً في مرحلة جديدة لم يسبق أن كانت فيها على مدار تاريخ تأسيسها، ويُظهر العزلة التي بدأت تعيش فيها الدولة العبرية بعد أكثر من 100 يوم على الحرب المدمّرة التي تشنّها على قطاع غزّة.
من الواضح أن إسرائيل خسرت كل الالتفاف العالمي الذي كان حولها بعد عملية طوفان الأقصى؛ بفعل الجرائم التي ترتكبها في غزّة، والتي تبثّ على الهواء مباشرة. وحتى إن كانت المحطات الغربية، والإسرائيلية، لا تبثّها بشكل كامل، لكنها تتسرّب من المحطّات العربية إلى المشاهد الغربي الذي لم يعد قادراً على تصديق أن كل هذا الدمار والقتل "مجرّد فبركات". إضافة إلى ذلك، أخرجت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، ولا سيما اليمينيين الموجودين في الحكومة، الحرب رسمياً عن سياق "الدفاع عن النفس"، ووضعتها في إطار "الإبادة الجماعية"، وهو ما اعتمدت عليه أيضاً محكمة العدل في قرارها الأولي، وسيكون أساسياً في قرارها النهائي في الجلسات المرتقب أن تبدأ في التاسع عشر من الشهر المقبل (فبراير/ شباط).
لم يكن من الممكن أن تكون دعوة وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزّة، عابرة، بل تأتي في سياق السعي إلى إبادة الفلسطينيين في القطاع. وحتى إن تبرأ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من التصريح وعاقب إلياهو، إلا أن الكلام جاء معبّراً عن الذهنية الإسرائيلية في تعاطيها مع الفلسطينيين عموماً، وليس أهل قطاع غزة فقط. الأمر نفسه بالنسبة إلى ما قام به وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت عبر وصف الفلسطينيين بـ "الحيوانات البشرية" في إطار شرعنة الإبادة.
في السياق نفسه، تأتي دعوات التهجير إلى خارج قطاع غزّة، والتي لم يتوقف المسؤولون الإسرائيليون عن ترديدها، وهو ما بات ينفذ بأشكال مختلفة، فضلا عن النزوح القائم في القطاع اليوم ومنع الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم في الشمال، بعدما تكدّس الجنوب بمئات آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون ظروفاً صعبة. ويُضاف التجويع والحرمان من الماء والدواء والعلاج عبر تدمير المستشفيات إلى سلسلة الأدوات التي تستخدمها إسرائيل في إبادة الفلسطينيين، وجعل قطاع غزّة مكاناً غير قابل للعيش.
كل هذه المعطيات ستكون أساسية في الوصول إلى القرار النهائي، والمتوقّع أن يصف ما يتعرّض له الفلسطينيون بأنه "إبادة جماعية"، وهو ما سيمثل نصراً تاريخياً للقضية الفلسطينية، ربما الأهم منذ النكبة قبل أكثر من 75 عاماً. قرار من المرتقب أن يغيّر النظرة العالمية إلى إسرائيل بشكلٍ كامل، ويزيد من عزلتها، خصوصاً أنه سيصدُر عن مؤسّسة تابعة للأمم المتحدة، وتحظى بكل الشرعية الدولية، فمهاجمة إسرائيل واتهامها بارتكاب الجرائم لن يُدرج بعد الآن في خانة "معاداة السامية"، بل سيصبح جزءاً من الوثائق الدولية.
تحية أساسية لا بد منها في النهاية إلى جنوب أفريقيا التي تحدّت كل الحسابات الدولية في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية، وها هي تمضي فيها حتى النهاية، وتجند وزراءها للحضور أمام المحكمة، والترافع عن حق الفلسطينيين في الحياة، وهو ما لم تفعله دولٌ عربيةٌ عدة، بل ساهم بعضُها، بشكلٍ أو بآخر، في مضاعفة آلام الفلسطينيين.