"العدلُ والإحسان" وتحدّيات الاندماج السياسي
أصدرت جماعة العدل والإحسان، الإسلامية المغربية، الأسبوع الماضي، وثيقةً سياسيةً، قدّمت فيها، بشكل مفصّل، مشروعها الإصلاحي الذي تقترحه على الدولة والنخب والمجتمع، ما يجعلها وثيقة تاريخية في مسار الجماعة ورؤيتها لقضايا الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المغرب.
ينهض المشروع السياسي للجماعة، حسب الوثيقة، على أسس ثلاثة: "بناء الإنسان، وتشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة". أما أهدافه، فقد تحدّدت في "بناء نظام شورى، وتحقيق العدل، وصوْن الكرامة، وتحقيق الحرية، وترسيخ الوحدة والتعاون". وعلى الرغم من النبرة الإسلامية البادية في هذه الأهداف، لم تتردّد الجماعة في استدعاء موارد الحداثة السياسية في مواضع أخرى من الوثيقة. ومن ذلك سعيها "إلى الإسهام في بناء دولة عصرية عادلة، منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية؛ دولة مدنية (...) دولة القانون والمؤسّسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرّة ونزيهة (...)". كما لم تغب المسألةُ الدستوريةُ عن الوثيقة، إذ رأت الجماعة أن "احتكارَ الملك السلطة التأسيسية الأصلية يشكل أحد الأعطاب البنيوية التي تسهم في انغلاق النسق السياسي المغربي، وتحكم على مساره بالاختلال، وعلى نظام الحكم فيه بالْمَركَزةِ والسلطوية"، ودعت إلى الانتقال من السلطوية المُدَسْتَرة إلى الدستور الديمقراطي، وذلك بوضع "مشروع دستور، تشرف عليه جمعية تأسيسية منتخبة (...)، يُعرض على الشعب في استفتاء عام، حرّ ونزيه (..)".
وإذا كانت الوثيقة صريحةً في انطلاقها من "المبادئ الاستراتيجية الراسخة الممتدّة زمنيا"، التي تحيل إلى المرجعية الإسلامية، فاللافت فيها توسُّلُها بقدر من الواقعية السياسية، في ما يمكن عدُّه ليس فقط رسالة إلى السلطة، بل أيضا تحوّلا نوعيا في خطاب الجماعة التي ربما تكون في طريقها إلى وضع قدم أولى في الحقل السياسي الرسمي. كما أن توقيت إصدار الوثيقة لا يخلو من دلالة، إذ تأتي في سياق سياسي يتسم بموت السياسة، وتراجع الأحزاب الكبرى، هذا من دون السهو عن الاحتقان الاجتماعي الناجم عن مخلفات الجائحة وارتفاع الأسعار ومعدل التضخم، وعجزِ حكومة عزيز أخْنوش عن مجابهة ذلك بتدابير عملية ملموسة. يُضاف إلى ذلك أن توقيت إصدار الوثيقة يتزامن من جهة مع تآكل حضور حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي قاد الحكومة ما بين 2011 و2021، في المشهد السياسي، ومن جهة أخرى مع الأزمة التنظيمية غير المسبوقة التي يعرفها حزب الأصالة والمعاصرة، باعتباره النقيض الموضوعي للعدالة والتنمية. وهو ما يثير أسئلة بشأن ما إذا كانت هناك "ترتيباتٌ ما"، تستعدّ، من خلالها، جماعةُ العدل والإحسان لشغر الفراغ الذي قد يخلفه انحسار أدوار العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة في المشهد الحزبي. وفي هذا الصدد، قد لا يكون مبالغة القول إن الوثيقة تضيف خبرة جديدة في المصالحات التي أنجزتها بعض تشكيلات الإسلام السياسي العربي المعتدل بين الدعوة والسياسة، بما قد يسمح باندماجٍ متدرّجٍ وغير مكلف لـ"العدل والإحسان" في الحقل السياسي الرسمي الذي تضع السلطة قواعدَ اللعبة فيه، من دون أن يعني ذلك تخلّي الجماعة عن المطالبة بإعادة صياغة هذا الحقل، بواسطة "دستور ديمقراطي، وانتخابات حرّة ونزيهة، وحكومة تتولى السلطة التنفيذية وتتحمّل كامل مسؤوليتها في وضع السياسات العمومية وتنفيذها".
من المرجّح أن تُحرّك الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان المياه الراكدة في السياسة المغربية. غير أن ذلك لا يعني أن مخاض اندماج الجماعة في الحقل السياسي الرسمي لن يكون عسيرا، خصوصاً بالنسبة للجناح المحافظ داخل السلطة والنخب السياسية، فضلا عن طيفٍ عريضٍ من الطبقة الوسطى لا يُكنُّ الود للجماعة بسبب تصلّب رؤيتها الفكرية لقضايا الحقوق والحرّيات الفردية والمرأة. وهو ما قد يؤشّر إلى مخاضٍ موازٍ داخل الجماعة، تتشكّل من خلاله توازناتٌ جديدة تُفرز جناحا أكثر واقعية، يقطع مع إرث مؤسّسها عبد السلام ياسين، ويؤسّس لمرحلة جديدة في رؤيتها وأدائها.