العالم لا يبقى كما هو

03 ابريل 2021

(يوسف أحمد)

+ الخط -

حين تؤسّس جيلاً فإنك تؤسس تاريخاً. قد لا يكون هذا التاريخ مشرقاً بل مدمّر حتى، لكنك بطبيعة الحال تؤسسه بناء على معطيات وتجارب مكثفة. ومهما كانت طبيعة بيئة التأسيس، فإن أولادها سيديرون مجتمعك أو بلادك في وقتٍ ما مستقبلاً، وسيؤسّسون بدورهم لجيل جديد. لا يتعلق الأمر ببصيرةٍ أو بتوقع ما، بل بحتمية مبنية على مجريات الأمور، المنبثقة من ذهنية تراكمية رسّخت عقلية محدّدة، قد تتصادم أو تتلاقى مع عقليات في مجتمعات وبلدان أخرى. في فيلم "ذا وايت ريبون" (الشريط الأبيض)، المنتج عام 2009، للمخرج النمساوي، مايكل هانيكه، تتمّ الإضاءة على التربية القاسية للأولاد عشية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، وكيفية تورّطهم، وفقاً لإحدى شخصيات الفيلم، بجرائم غامضة في قريتهم. يُظهر الفيلم كيف ترك هذا النوع من التربية آثاره على الأطفال، وتحوّلهم لاحقاً إلى الذراع الأساس للنازية الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين، وما رافقها من مجازر وانتهاكات بحقّ الإنسانية. وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، تحوّلت ألمانيا مع الوقت إلى نموذج يُحتذى للعالم، سواء اقتصادياً أو إنسانياً، لكنها في الوقت نفسه تظهر مخاوفها في خطواتها الجماعية على المستويين الأوروبي والعالمي، خشية وصمها بالنازية مجدّداً. إنه نوعٌ جديد من التربية، المرتكز على إبقاء النازية سيفاً مصلتاً بين سطور الكتب الدراسية، ومهدّداً البلاد في مستقبل ما بالثورة على ما قد يُعتبر "جلد ذات لا ينتهي".

من ألمانيا إلى الشرق الأوسط، تغيب التربية الموجّهة لمصلحة تربية عشوائية، ناشئة عن أزمات عسكرية واقتصادية وسياسية ودينية في بلدان عدة. يُمكن عزو ذلك إلى عوامل عدّة، بدءاً من سيطرة التطرّف الديني والسياسي والمالي، مروراً بالأزمات العسكرية والحروب المتناسخة، وصولاً إلى رفض بعضهم فكرة التغيير الإيجابي، خشية بروز أجيال مغايرة ذهنياً عن الأجيال السابقة. يخلق هذا الأمر نوعاً من فوضوية لا مركزية، تتمدّد في زوايا المجتمع، وتعزّزها سردية انفعالية للبقاء على قيد الحياة أمام متغيرات العالم. هنا حقيقة ثابتة: العالم لا يبقى كما هو، بل يتغير، شأن كل شيء آخر. طالما الزمن لا يتوقف ولا يعود إلى الوراء، فإن العالم لن يتوقف ولن يعود إلى الوراء. تغيب هذه الحقيقة عمّن يمارسون التربية، الموجّهة أو العشوائية، بل يعملون بحسب قاعدة أن الثبات هو مفتاح الاستقرار الحياتي، بينما، عملياً، يختلف الثبات عن الاستقرار، كاختلاف كوكبي الأرض والمرّيخ حالياً. الثبات حالة تحتاج إلى فهم دورها كجزئية في تطوّر التربية مع تقدّم الزمن، تحديداً في سياق اعتمادها على الواقعين العملي والعلمي، لا على العاطفة و"الشعور بالحنين". أما الاستقرار فهو العنصر الناجم عن تصالح الزمن والإنسان والتطور، وأي خللٍ في هذه الثلاثية ستؤدي إلى فراغٍ في العالم، تغذيه الحروب والكوارث.

وسط هذا كله، سنفهم ما يدور في عالمنا حالياً، حين نعود إلى الخلف نحو عقدين أو ثلاثة. كيف كان أطفال الدول العربية أو شبابها في تسعينيات القرن العشرين؟ كيف كان تأثير الحروب الداخلية والاعتداء الخارجي على أوطانهم فكرياً وسلوكياً؟ ما دور المؤسسات التعليمية في حمايتهم، أو قدرتها على حمايتهم، أو قمعهم؟ حين نفهم ذلك، ندرك كيف أن الجزء الأكبر من أزمة كل بلد عربي نابعة من الداخل، لا من الخارج، فقدرة الخارج على التوغل في الداخل تضعف أمام أي وحدة داخلية. وهذه الوحدة لا تُبنى بالشعارات، ولا بالدعوة للجهوزية الحربية فحسب، بل بإرساء تربيةٍ مبنيةٍ على التلاقي مع الزمن وتطوره، تنطلق من فكرة: أي قادةٍ نريد لهذا المجتمع بعد 20 أو 30 سنة؟ أما إذا قرّرنا تجاهل هذا الجوهر، وهو ما يحصل وسيحصل، فإن الفجوة الآخذة في الاتساع مع "جيل الإنترنت" ستستولد مفهوماً تربوياً خاصاً، تقضي فيه على جمادٍ ظنّ أنه لا يتغير.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".