الصندوق الأسود
قرّرت العدول عن خطتي التي صممت على تنفيذها مع حلول الأجواء الباردة والممطرة في هذا الموسم، وهي إغلاق الشرفة الوحيدة في بيتي، بحيث تتحوّل إلى صندوق محكم الإغلاق، وذلك بعدما تواترت تلك المشاهد المؤلمة للحريق الذي أودى بحياة حوالي 21 شخصاً في واحد من أكثر مخيمات اللاجئين اكتظاظاً في غزة، مخيم جباليا. وقد أفادت شهادة أحد الشهود بأنّ إحدى الأمهات المحاصرات بالنيران في الطابق الثالث كانت تحاول إخراج طفلها من بين القضبان الحديدية التي تُحكم إغلاق النافذة المطلة على الشارع، لكنّها لم تستطع، لأنّ هذه القضبان كانت ضيقة الفجوات. وعادة ما تُغلق شرفات (ونوافذ) البيوت في غزّة بالقضبان الحديدية، لحماية الأطفال، خصوصاً في ظلّ التوسّع العمراني العمودي، مع تزايد عدد السكان وضيق مساحة القطاع، ولذلك أطلق على هذا الأسلوب الذي يعدّ اللبنة الأخيرة في تجهيز أي بيت للسكن بأنّه "الحماية" ولم يكن يعرف قاطنو البيت الذي اشتعلت فيه النيران وضيوفه أنّ هذه القضبان الحديدية قد وضعت النهاية لحياتهم مع أطفالهم.
في ضوء حادثة الحريق المؤلم، أهيب بكلّ الناس عدم إهمال تجهيز طرق النجاة في حال الخطر في بيوتهم، فلو أمعنّا النظر بتصميم بناية سكنية يقطنها أناس مثقفون ويحتلون مراكز مرموقة، وبالطبع لديهم المقدرة المادية لتأمين سلم خارجي للنجاة في حال الحرائق وتأمين طفايات الحرائق في كل طابق، ما لم تكن مؤمّنة في كل غرفة، وكذلك جهاز إنذار بالحرائق، ولكن أحدا لا يفكّر بهذه الطريقة أبدا، رغم أهميتها. ولذلك يجب الأخذ بالاعتبار وضع هذه اللبنة الأخيرة في كلّ بيت، وربما لو أوجب ضرورة تأمينها من الحكومات شرطاً لترخيص بناء البيوت، فيكون ذلك من الأفضل والأسلم.
في حادثة حريق مخيم جباليا، المؤلمة والموجعة، قصص وعبر كثيرة، وعلينا أولاً وأخيراً أن نتذكّر أنّ عجلة الحياة تدلي لسانها لنا بقسوتها يوما بعد يوم، فأنماط بيوتنا في الربع الأخير من القرن العشرين، وحيث كنا نسكن في بيوتٍ من طابق واحد، وتحيط بها حدائق صغيرة، وأسوارها منخفضة، منحتنا بعض الأمان. وفيما أذكر، كان جدّي، رحمه الله، يصرّ على وجود حظيرة صغيرة في ركنٍ من الحديقة، لأنه كان، في الأصل، فلاحا، ولم يتوقف عن تربية الطيور والحيوانات. وحدث أن وضعت غنمته الوحيدة في أمسية شتوية باردة، فأوقد حولها نارا لكي تستدفئ، لكن النار امتدّت إلى كومةٍ من الحطب المجاورة، وما هي إلا دقائق حتى تسلق سور الحديقة عشرات من الجيران الذين جمعتهم صرخة واحدة من جدّي، وأطفأوا النار قبل أن تمتدّ وتتسبب في الخسائر، وقد تذكّرت هذه الحادثة، وأنا أتابع مجريات أحداث الحريق، وصعوبة تسلق الطوابق العليا إلى مبنىً محكم الإغلاق من الخارج.
حدثت فاجعة العائلة المترابطة المتحابّة مساء يوم الأربعاء الماضي. وحتى ثلاثة أيام تلته أو أكثر، كنت بوصفي أمّا، أشعر بالذعر، ولمست ذلك من أمهاتٍ كثيرات، وبالخوف من الموت الجماعي، وهاجس عدم وجود الأمان في البيت، وتوقع حدوث حريق أو انفجار بسبب تسرّب الغاز المنزلي، أو عبث الصغار، أو تماسّ كهربائي. حتى خرجت نتائج التحقيق، تؤكّد حقيقة واحدة، أن كل شيء قد ينتهي في لحظة. وكم سرحت في خيالي بأفراد هذه العائلة الذين كانت لديهم بالتأكيد خطط يومية وشهرية وسنوية، وكانوا يحلمون ويأملون، ثم انتهى كل شيء. وفكّرت كثيرا في مشاعرهم، وهم يرون أحبتهم يموتون أمام أعينهم، وهذا أقسى شعور يمكن أن يشعر به الإنسان. وفكّرت أيضا بأن شيئا تافها قد يكون سببا لنهايتك، وربما كان الشخص الذي يعد "فهلوي" العائلة ومنقذها بأفكاره المدهشة هو المتسبّب في هلاكها كالدّبة التي قتلت صاحبها. وفي النهاية، مات سرّهم معهم، فلم ينج أحد ليكون الصندوق الأسود، ويخبرنا بما حدث.