الشهداء الأحياء: وصية صلاح خلف الأخيرة
لم أجد، في الذكرى الثامنة والخمسين لانطلاقة حركة فتح مطلع عام 1965، ما يعبّر عن واقع الحال، أبلغ من الوصية الأخيرة للقائد في الحركة، الراحل صلاح خلف (1933 - 1991) التي كتبها بعد استشهاد رفيق دربه، خليل الوزير، وقبل استشهاده هو بفترة وجيزة، ووجدتها عائلته على سطح مكتبه في منزله في تونس ممهورة بتوقيعه. وهي لم تكن وصيته الوحيدة، إذ ثمّة وصية سابقة مؤرّخة بتاريخ 28/4/1968، وكلتاهما محفوظتان في أرشيف ذاكرة فلسطين لدى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي ستُطلَق المرحلة الأولى منه خلال فعاليات منتدى فلسطين الذي ينظمه المركز العربي ومؤسسة الدراسات الفلسطينية في الدوحة في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الحالي.
صلاح خلف (أبو إياد) أحد القادة المؤسّسين لحركة فتح، والمسؤول الأول عن أجهزتها الأمنية على اختلاف مسمّياتها، من الرصد الثوري إلى الأمن الموحد، ومؤسّس ما عُرفت بمنظمة أيلول الأسود التي نشطت في مجال العمليات الخارجية بعد حوادث أيلول 1970 في الأردن، ونفّذت عملية ميونخ الشهيرة خلال دورة الألعاب الأولمبية في 1972، وهدفت عملياتُها إلى إعادة الاعتبار للثورة، وإثبات وجودها، والتلويح بقوتها في مواجهة أعدائها، بعد خروج المقاومة من الأردن. عرّفته وسائل الإعلام بأنه الرجل الثاني في حركة فتح، وحرص ياسر عرفات على تثبيت هذه المقولة في المؤتمر العام الثالث لحركة فتح عام 1981، حين وقف مخاطبًا أبو إياد بالآية القرآنية "ثاني اثنين إذ هما في الغار" (التوبة: 40). ولم تكن "فتح" نقطة البداية في علاقة خلف بعرفات، فهي تعود إلى بداية الخمسينيات، حين تزاملا في فترة الدراسة الجامعية، وخَلَفَ أبو إياد عرفات في رئاسة رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة، والتقيا نهاية الخمسينيات على تأسيس حركة فتح، وتعزّزت هذه العلاقة بانتقال صلاح خلف إلى الكويت مطلع الستينيات، ومشاركته في اللجنة المركزية الأولى لحركة فتح، واستمرّت حتى لحظة اغتياله في تونس، وإنْ شهدت سنواتٍ من المدّ تخللها بعض فترات الجزر.
شهدت حركة فتح تحوّلاتٍ كبرى في مسيرتها العسكرية والسياسية، وباتت قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني
سجّل أبو إياد، في 28/4/1968، وصيته الأولى بعد عودته من معركة الكرامة (شكّلت نقطة تحول كبرى في مسار الثورة) لزيارة عائلته المقيمة في الكويت، بحضور صديقه وزميله في الحركة علي ناصر ياسين (أبو الحسن) الذي اغتالته مجموعة صبري البنا (أبو نضال) عام 1978. يوجّه صلاح خلف، في هذه الوصية، رسائل إلى من يحبّ. الأولى إلى أولاده "الأشبال الصغار الذين أودّعهم كل يوم وأنا أحسّ أنهم قطعة مني"، لكنه يتركهم لما هو أكبر منه وأكبر منهم، يتركُهم من أجل وطنه ومن أجل بلاده، ومن "أجل الشعب الذي أحببته أكثر من أولادي"، إذ أراد منهم أن يعتزّوا به، فهو يخدم بلاده "مرتاح الضمير، مرتاح النفس"، كما أنه يتركهم "لرجالٍ حملوا هذه الأمانة وحملها معهم"، "لنكون جميعًا شهداء"، مؤكّدًا أن الدرب طويل، و"لا ندري متى يكون النصر، لكن التاريخ سيسجّل أن هذه الفئة من أبناء فلسطين رفضت الهزيمة، وماتت وهي ترفض الهزيمة، وستعيش إذا عاش منهم نفر وهو معتزٌّ بنفسه، معتزٌّ بإخوانه، معتزٌّ برسالته".
يُخاطب أبو إياد زوجته "بقلب كله حبٌّ وكله ثقة"، مذكّرًا أن زوجاتٍ كثيراتٍ يفقدن أزواجهن في حوادث عابرة، لكنها تعلم أن الرسالة التي يحملها مع إخوانه "من أشرف وأنبل ما عرفت الشعوب التي تحمل رسالة تحرير الأوطان". ويخاطب والديه معتذرًا لهما عن عدم تحقيق رغبة والده في أن يوفر له حياة مريحة في آخر أيامه، متسائلًا: "هل يرضى والدي أو ترضى والدتي أن أعيش جبانًا بعيدًا عن أرض المعركة"، مؤكّداً أنه تركهم "لما هو أفضل وهو الوطن العزيز الحبيب".
فصلت 22 عاما بين تسجيل الوصية الأولى وكتابة الوصية الثانية. وجرت في هذه الأعوام مياه كثيرة في الساحة الفلسطينية، وشهدت حركة فتح تحوّلاتٍ كبرى في مسيرتها العسكرية والسياسية، وباتت قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني، وفقدت عددًا كبيرًا من كوادرها وقياداتها، وكان آخرهم خليل الوزير (16/4/1988)، الذي استشهد قبل تسعة أشهر من استشهاد صلاح خلف، فعكست الوصية الثانية أوضاع الحركة حين كانت على وشك الانزلاق في مفاوضات أوسلو.
لم تعد تُجدي مناوراتٌ ولا عقاقير، وحيث ثمّة من يشهد بشهادة الزور ويمارسها يوميًا
في وصيته التي عنونها بـ "الشهداء الأحياء"، والمكتوبة بخطّ يده، يصف أبو إياد حال "فتح" وقياداتها في تلك الفترة، وأورد هنا نصها الكامل لأهميتها: "منهم من استشهد وهو راضٍ عن استشهاده، بل قد يكون سعى إليه، ومنهم من يقاوم ولكن باستهتار لأنه يشعر ألّا فائدة، وهناك من يقاوم بشراسة، ولكن بدون جدوى، فالموت البطيء أقوى من مقاومته. إذا كان هذا هو وضع اللجنة المركزية مع ياسر عرفات، فلماذا لا نكون كلنا أبو جهاد، فنموت مطمئنين إلى أننا استشهدنا؟ فلعلنا بموتنا نكون أكثر فائدةً من حياتنا، لأن جسمًا كبيرًا بدأ يحتضر منذ مدة طويلة، ونحن نتعامل مع هذا الجسم، وهو حركتنا، بالعقاقير التي قد تؤجل النهاية ولكن النهاية قادمة لا محالة. أليس من الأفضل أن نكون شهداء حقيقيين مع الشهداء الذين سبقونا، وعلى رأسهم شهيدنا الخالد أبو جهاد، من أن نكون شهداء أحياء نمثّل شهادة الزور ونمارسها يومياً؟ بالنسبة لي لن أكون من الشهداء الأحياء، والله على ما أقول وكيل وشهيد".
تنبأ أبو إياد باستشهاده، وكان حاسمًا في ذلك، وقد ازداد يقينًا بعد استشهاد أبو جهاد. والمسألة هنا تتعدى النبوءات بالنسبة إلى رجلٍ في مكانة صلاح خلف، لتصبح بمنزلة تقدير موقف، فهو بحكم مسؤوليته عن أجهزة الأمن الفلسطينية، وعلاقاته العربية والدولية، تسرّبت إليه بعض أنباء الاتصالات السرّية التي حُجبت عن الجميع، فأيقن أن ثمّة غطاءً عربيًا ودولياً قد رُفع، وأن ضوءاً أخضرَ صدر بتصفية من يعارض التيار القادم، أو يقف عقبةً في طريقه، وكانت البداية باغتيال خليل الوزير. وتصف الوصية ضعف حركة فتح وهي على أبواب توقيع اتفاق أوسلو، إذ يراها جسماً يحتضر ويُعالج بالعقاقير (التنازلات السياسية) التي قد تؤجل نهايتها، لكن لا تحول دونها. ولعلّ هذا ما حدث تماماً لدى توقيع اتفاق أوسلو الذي أنهك جسدها، وأجهض ثورتها، وانقلب على فكرتها. وهو توصيفٌ يصحّ على حالها اليوم، حيث لم تعد تُجدي مناوراتٌ ولا عقاقير، وحيث ثمّة من يشهد بشهادة الزور ويمارسها يوميًا، لكن هناك، في الوقت ذاته، من يسعى إلى المقاومة والشهادة، فحركة فتح التي أينعت الثورة المضادّة من داخلها، وانتصرت بعض الوقت، لا تزال فكرتها الأولى مشتعلة.