الشعب يطلب الحماية

16 يوليو 2023
+ الخط -

احتاج بضع دقائق ليستوعب ما قيل له، ليس لأنه كان مستغرقاً في نومٍ عميقٍ كعادته، بل لأن النبأ الذي نُقل إليه كان صعب التصديق على رئيسٍ مثله، فقد اقتحم مستشارُه الخاص غرفة نومه المحرّمة على الجميع، إلا في الحالات الطارئة فقط، وهو يقذف بعبارته الصادمة تلك: "سيدي الرئيس ... وافقوا على توفير الحماية للشعب الفلسطيني".

انتفض الرئيس كالملدوغ عندما سمع تلك العبارة، ورفع جِذعه عن السرير مستنداً إلى يديه، وهرش رأسه طالباً من مستشاره تكرار العبارة: "نعم، يا سيدي، للتوّ صدر قرار من مجلس الأمن بهذا الخصوص".

كان القرار صادماً حقّاً للرئيس الذي راح يتذكّر تصريحه أخيرا ردّاً على العدوان الصهيوني على مدينة جنين ومخيّمها، ودعا فيه إلى توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، لكن "لماذا الآن ... ما الذي تغيّر؟". تساءل باستغرابٍ محقّ، لأن هذا الطلب، تحديداً، كرّره مئات المرّات منذ تسلمه السلطة بلا جدوى.

لم يكن يتوقّع، أبداً، أن يُجاب طلبه، الذي يعرف جيداً مدى استحالته، من معظم الدول التي تقرّ "بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، حتى ولو على قاعدة "خير وسيلة للدفاع هي الهجوم"، فضلًا عن أن فخامة الرئيس لم يكن جادًّا، حقًّا، في أيّ من تلك المناشدات، لكنها "ضروراتٌ" تقتضيها البروتوكولات واعتبارات الرئاسة.

صحيحٌ أنه طالب بالحماية، بل وذهب أبعد من ذلك عندما أعلن قطع جميع الاتصالات مع إسرائيل، وما يخصّ "التنسيق الأمني" كذلك. لكنه يدرك، أيضاً، أنها تهديداتٌ لا تتعدّى ذرّ الرماد في العيون، خصوصاً أنه يحمل هاتفاً "للإرسال فقط" في ما يتعلّق باتصالاته مع الجانب الإسرائيلي، الذي لا يأخذه على محمل الجدّ، حتى عندما أطلق تهديداته، فقد انتظر يومين أن يتلقّى اتصالًا من "بيبي نتنياهو"، ولو على سبيل المجاملة، بلا جدوى.

وفي ما يتعلّق بالتهديد بوقف "التنسيق الأمني"، كان السيد الرئيس يدرك تماماً أنه محض رُغاء وهراء، لأن سلطته برمّتها قائمة على هذا التنسيق، ولولاه لما قبلت إسرائيل مفاوضات أوسلو من أصلها. وما يبرهن على ذلك أن قوات السلطة في جنين التزمت مقارّها خلال العدوان، ولم تغادرها قيد شعرة، فالأحداث كلها تدور عند "الجيران"، ولا ينبغي لها حشر أنفها في ما لا يخصّها.

عموماً، نهض الرئيس من فراشه مزهوًّا، يخطُر في الغرفة بخيلاء "المنتصر"، وكان أوّل ما طلبه تزويده بنصّ قرار مجلس الأمن عن "الحماية"، فوضع نظّارته السميكة على عينيه، وراحت عيناه تمسح القرار بسرعة بحثًا عن "اسمه" على اعتبار أنه هو من طالب بذلك، غير أنه فوجئ بخلوّ القرار من أيّ ذكر له، بل استهلّ بعبارة: "بناء على طلب الشعب الفلسطيني ...".

أعاد القراءة مرّاتٍ عدة، ونبش السطور وبينها، لكن لا وجود لاسمه، البتة، فشعر ببعض الخيبة، غير أنه سرعان ما استعاد زهوَه وخيلاءه، عندما تذكّر أنه ما زال "الرئيس"، وأن له الفضل الأول في إصدار القرار، وغمغم: "لا يهمّ فأنا وشعبي وحدة واحدة".

ثم تأكّد الرئيس من صدق النيات، عندما بدأت ترجمة القرار على أرض الواقع، فقد راحت قوات الحماية الدولية تصل تباعاً إلى المناطق الفلسطينية، وتتّخذ مواقع دفاعيّة لها، حول القرى والمدن، وهو ما دفع الرئيس إلى الرقص طرباً، لأن ذلك يعني مزيدًا من توطيد سلطته وتعزيزها، فشعبه "لا ينكر الجميل"، ولا بدّ أن يبذل له أسمى آيات الإطراء والثناء حالما يراه. ولأنه كان متعجّلًا للحصول على هذا الإطراء، فقد طلب ترتيب زيارة عاجلة ليكون في كنف شعبه "الحبيب".

جرت الترتيبات بسرعة كما أراد، غير أن كل شيء انقلب بغتة عندما توقف الموكب عند حاجز "الحماية" الدولي الأول، ولم يسمح له بالدخول. خرج الرئيس مذهولًا وهو يسأل أفراد الحماية: أنا رئيس من تحمونهم، فلماذا تمنعونني من الدخول.

- المعذرة، سيدي... يبدو أنك لم تقرأ القرار جيدًا، فقد طلب شعبُك الحماية منك.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.