الشعب السوري يريد إسقاط "الحظيرة الأسدية"

03 اغسطس 2023
+ الخط -

نجح في تسجيل اسمه في التاريخ بوصفه المؤسّس المبدع لمدرسةٍ فريدة من نوعها، عبر ابتكاره أساليب "جهنمية" لتحويل البلاد ليس إلى "مقبرةٍ جماعية" أو "مملكةٍ للصمت"، كما درجت تسميتُها، بل وأسوأ، لقد حوّلها إلى "ملكيةٍ شخصية" تتسيّدها عائلته، سماها باختصار "سورية الأسد". ومن يدرك حقيقة النظام السوري وتركيبته العُصابية الأمنية يُنتفى لديه عنصر الدهشة من وجود هذه البقعة الجغرافية التي لا تمتّ بصلةٍ لصورتها في الأطلس، وفيها ما انفكّ يُقيم طقوساً مكثّفة للتحوّل والعبور بين "المطلق الإلهي" الذي يمثله رأس الهرم الحاكم و"المحدود البشري" الذي يمثّله الآخر. وبالتساوق مع ما تقدّم، بدأت تركة هذا النظام في تفخيخ المجتمع السوري تطفو أخيراً على السطح، وراح النسيج الاجتماعي يتمزّق تحت وطأة عصبيّات كامنة انفلتت من كوابحها، تمّت تغذيتها بالوصفة السحرية "التخويف والتجويع"، ليغدو الأسد نفسُه عقبة حقيقية أمام لمّ شمل العائلة السورية الكبرى التي تقبع في الدرك الأسفل لحظيرةٍ تُعدّ جريمة بحقّ الإنسانية جمعاء، ولا أحد يعترض. هي القائمة على ركام عقودٍ خمسة من اختلاف المقدّس وحضوره، واختطاف الحياة السياسية والقانونية، أيضاً غياب الدولة ومعنى المواطنة.

ويبدو أنّ التأسيس المتخيّل "للحظيرة الأسدية" قد صُمّم فعلاً على خير ما يكون، وأقصى ما تصل إليه ذاكرة السوريين المغيّبين خارج هذا التخيّل هي صورة ضبابية لماضٍ إقطاعي متطرّف تسوده العبودية. وبالنظر إلى الظرفية التي نشأت فيها، لا تبدو هذه الحظيرة أشبه بفنّ تجريدي يحاكي الواقع ويسقُط في متاهاته التبسيطية، فقط، إنما تقدّم نسخة صريحة لتحوّلات الوعي الإنساني المتشابك سياسياً ومعرفياً واجتماعياً، وتشكّل تجسيداً حقيقياً لمعادلة القوى الفيزيائية المتعاكسة في جملة فيزيائية واحدة وعلى حامل واحد، الأمر الذي أوصل إلى شعبٍ محطم، أو فيه بقية من رمقٍ بأحسن حالاته، ما أدّى إلى انهيار الجسد الفيزيائي بكامله، أي انهيار سورية.

وبالتوازي مع رواية "مزرعة الحيوان" للبريطاني جورج أورويل، والتي لم تكن مجرّد عملٍ أدبي أملته الهموم الأدبية والفنية الذاتية آنذاك، وفيها يقول: "نأتي الى العالم فيطعموننا ما نسدّ به رمقنا، ومن يملك القوة المبتغاة يضطر إلى العمل حتّى يسلّم الروح، وفي اللحظة التي نصبح فيها غير نافعين يذبحوننا بوحشية مفرطة". فعلياً، تبدو هذه الكلمات إحدى أبرز مقولات الرواية الشهيرة التي تدفعنا إلى طرح السؤال الجوهري: هل تنطبق هذه المقولة على الواقع السوري؟ ومن بين التيمات الرئيسة لهذه "الحدّوتة" القصيرة أنّ السلطة المطلقة تفسد على الإطلاق، عندما تأتي الأيديولوجيا مع جرعةٍ زائدة من الشوفينية لتجعل السلطة أداةً لفرض الأمر الواقع الذي يتحوّل إلى مهزلة كبرى، بعد أن تُحصر الحياة برمتها وإسقاطاتها ومعانيها ضمن الذهنية الشاذّة للنظام الحاكم، وأيّ انحرافٍ عن هذا النسق يُعتبر مدنّساً مذموماً.

لا يمكن أن تنشأ مجتمعاتٌ مقهورة ما لم تتبنَّ سلوكيات العبيد، بينما يتجوّل أفرادها كقطعانٍ مخدّرة بين خرائب البلاد المدمرة

بالتأكيد تنطبق، وأيّ مهزلة ألعن من المسرحية الهزلية أخيرا في "مجلس التصفيق والشغب" السوري، إذ وبينما صرّح أحد أعضائه بأنه وبعض الزملاء ينظمّون طلب استجواب للحكومة، تمهيداً لحجب الثقة عنها، أعلن المجلس عن عقد دورةٍ استثنائية لمناقشة الواقع الاقتصادي والمعيشي، لتتوصل الجلسة الاختتامية "المهيبة" إلى تشكيل لجنة مشتركة بين مجلس الشعب والحكومة، من أجل إعداد حزمةٍ متكاملةٍ من المقترحات للنهوض بالواقع المأزوم. وكالعادة، تتكلّل بتصريح "فضائي" لحسين عرنوس، رئيس حكومة نظام الأسد: "ما تقوم به الحكومة من خطط وتوجهات لا يقع تحت عنوان الضرورة والحتمية بقدر ما يقع تحت عنوان القناعة والمنطقية". تصريحات "مائعة" منفصمة تندرج تحت مسمّى "دائماً تبرِق ولا تمطر"، لا تمت للواقع بصلة، ليس بداية باستعراض نظريةٍ غريبة تفيد بأنّ قادة العدو الإسرائيلي يضربون سورية للتغطية على "فسادهم"!، إلى دراسة فوائد البطاقة الذكية وايجابيات الزواج من غير الأطباء، وليس نهاية بالطبع بحجب الحقائق المروّعة وتفعيل الضرائب وتوطين السوق السوداء ... إلخ. إذ كيف ينتظر الشعب السوري حلاً من مجلسٍ قدّم أحد أعضائه، ذات مرّة، تبريراً "مُبهراً" لمشكلة انقطاع الكهرباء، وفيه أظهر الحكومة كجهةٍ "حنون" تخاف على جيوب المواطنين، لأنّ فاتورة الكهرباء ستكون باهظة في حال توفير خدمة الكهرباء إلى البيوت بانتظام.

بطبيعة الحال، يعدّ فصل اسم الأسد عن سورية انتهاكاً مرعباً لخصوصية الحظيرة التي يسود فيها عالمٌ من القمع المنظم، لا يصلح للسوريّ ولا لنمو إنسانيته، بل يعمل على "حيونة" الإنسان، بتعبير ممدوح عدوان، مع استمرار هذا النظام المارق بتسيّد بوتقة العربدة الشيطانية والفوضى الهدّامة وانقلاب المعايير الإنسانية في بهيم العمى الذي تسبح فيه البلاد. والخطير أنّ آلية ترويض السوري لا تعتمد دوماً عنفاً ظاهرياً مباشراً بقدر ما هي استثارة لردود عاطفية "عقيمة" على المشكلات المعيشية المستعصية، ليتحوّل تدريجياً إلى مخلوقٍ مشوّه في سجن مفتوح على كلّ احتمالات العدم، ومن دون أن يعني هذا بالضرورة تغيّراً في الشكل، التغير الأكثر خطورة هو الذي يجري في بنيته العقلية والنفسية، بينما يكتوي داخل فضاء طاحن لا يمكن تأسيس كينونة اجتماعية فيه، كونه مكرّساً لإبادة القطعان السورية كما لو أنها لم تكن يوماً، أما الوطن "المُشتهى" بوصفه الوعاء الحاوي للعلاقات الاجتماعية والتاريخ والهوية، فتحوّل إلى مجرّد عنوان ثقيل الظلّ في سجلات المنظمات الدولية والإنسانية، لأنه ببساطة يمثّل الهوّة المرعبة بين ما يقدّسه السوريون (ويتغنّون به) وما يظهر في سلوكياتهم اليومية.

ليس لسكان الحظيرة سوى الطاعة، وفيها يريد المضطهِد "الأسدي" أن يقمع النصف "الزائد" في السوري، وهو الإرادة والحرية والكرامة

ليس لسكان الحظيرة سوى الطاعة، وفيها يريد المضطهِد "الأسدي" أن يقمع النصف "الزائد" في السوري، وهو الإرادة والحرية والكرامة، لكونها فوائض غير مرغوب بها، والغاية المبيّتة إيصال المعذَّب إلى حالةٍ مزريةٍ خاليةٍ من الكبرياء والقيمة والاحترام تدفع الضحية إلى الاستسلام والطأطأة، إذ لا يمكن أن تنشأ مجتمعاتٌ مقهورة ما لم تتبنَّ سلوكيات العبيد، بينما يتجوّل أفرادها كقطعانٍ مخدّرة بين خرائب البلاد المدمرة، كما "الزومبي"، يحاربون بعضهم للنجاة، وكأنهم لقيمات في أشداق المجهول فلا بصيص من أمل، ولا ثمّة بصيرة تأخذ بأياديهم إلى مشارف النجاة. يردّدون ما قاله ممدوح عدوان في روايته "أعدائي": "تصوّر حجم ما مات فينا حتّى تعودنا على كلّ ما يجري حولنا".

فعلياً، تشبه هذه الحظيرة، التي لا يتناهى منها سوى ضجيج القهر ولا خلاص، العالم الذي رصده جوزيه ساراماغو في تحفته "العمى"، والتي سعى من خلالها إلى تبيّن الكيفية التي تولد بها النظم المستبدة وتتوحّش وتتمركز، مستخدماً رمزية العمى ليُعبّر عنها. وأكثر.. جوهر هذه الرواية ومدماكها الرئيس هو نقد لاذع لأوضاع اجتماعية مهترئة، في ظلّ تعريةٍ فلسفية لدواخل الحاكم والمحكوم. وفي سورية، بجب دراسة القاع الذي يمكن أن يصل إليه السوريّ الخائف والجائع في آن، وأين ستودي به هشاشته و"حيوانيته" عندما تنهار الأخلاق، كلياً، وتُغتصب الكرامة وتضيع الآمال؟ هل يعود إلى وحشيته الأولى، أم يتسنّى للجموع المخدّرة في هذه البقعة البهيمية أن تنتبه إلى عماها أخيراً، وتصرخ ملء الصوت: "الشعب يريد إسقاط الحظيرة الأسدية"؟.