الشعبُ السوريّ بين العجز المُتعلَّم واللامبالاة الدفاعية
خلال المقابلة الماراثونية التي أجرتها قناةُ الصحافي تيلو يونغ مع المراسل الحربي المخضرم لمجلة "دير شبيغل" كريستوف رويتر، الذي سبق أنْ أقام في دمشق أواخر ثمانينيات القرن الماضي لدراسة اللغة العربية، وغطّى الحرب السورية لاحقاً. جاء سؤالٌ على لسان الصحافي السياسي يونغ: هل تريد مقابلة بشار الأسد؟. يردّ رويتر: ليس الآن.. ربما بعد خلعه من السلطة، كي أسأله فقط: لماذا حوّلتَ هذه البلاد إلى أنقاض؟ لأجل ماذا؟
اتساقاً مع هذا السؤال المعلّقة إجابته حتى إشعار آخر، وإذا ما سلّمنا بالقاعدة الأشهر في الأروقة السياسية "الطغاة يُصنعون لا يُولدون"، لا بدّ من طرح سؤالٍ مهم في المقابل: من المُلام هنا في الحالة السورية: حكم الأسد أم صمت البلد؟
في الحقيقة، لا بينوشيه في تشيلي، ولا بوكاسا في أفريقيا الوسطى، ولا فرانكو في إسبانيا، ولا موسوليني في إيطاليا فعلوا ما فعل النظام السوري في حقبتَي الأب والابن. يحدّثوننا عن مؤامرةٍ في سياقٍ تُستأصلُ فيه الحقائق بفعلٍ قصدي وبشكل فجّ، وفق نظرة إنكارية لتاريخ قريب، ويقدّمون روايات حيكت من دون عناية، بما يتواءم مع الأفكار التي يسوّقون. وهكذا، فإنّ ما قامت به السلطةُ غير الشرعيّة، وعبر خمسة عقود، هو تبنّي رواية الطاغية بغرض "تنميط الهزائم"، ليكون الشعب إمَّعة كالببغاء، عقله في أذنيه، ومعتقلاً داخل النص الذي يكتبه المستبدّ كما يهوى. وليس أدلّ على هذا المحور القيمي سوى احتباس عنف الطاغية الذي يقمع كلّ نزوعٍ نحو الخروج والتمرّد على القيم المألوفة، أو محاولة إعادة النظر في ما يُعدّ مبادئ مقدّسة، أو مواجهة السياسات القمعيَّة التي تعمل على تشكيل غريزة القطيع في أسوأ أشكالها.
سوّق الأسد الابن أنّ انتفاضة عام 2011 ليست إلاّ ثورة إسلامية مسلحة متطرّفة ضد حكمه العلماني الديمقراطي
لنفهم ما حصل في سورية سنتناول، بشكلٍ خاطف، نظرية "العجز المُتعلَّم" للعالم الأميركي مارتن سليغمان، الذي ﺃﺭﺟﻊ مفهوم هذه النظرية إلى أنّ تكرار تعرّض الشعوب للضغوط مع تعزيز فكرة عدم القناعة بمواجهتها، يكوّن صورةً ذهنية وقناعةً راسخة بأنه لن يتمكّن من مواجهة مثل هذه المواقف مستقبلاً، ما يصيبه بعدم الثقة بالنفس وعدم تقدير الذات.
خذ مثالاً.. عندما استغل الأسد الأب حالة الهلع التي عاشها الغرب بعد نجاح الثورة الإيرانية، قام بمجزرة حماة بحجة القضاء على الإرهاب الإسلامي. وبدا هذا واضحاً في افتتاحيات صحف عالمية، مثل لوموند الفرنسية والتايمز اللندنية، حينما وصفت التخلف والتحجّر اللذين يعيشهما مجتمع حماة بأنهما يُنذران بظهور خُميني جديد، لولا "الجراحة التصحيحية" التي قام بها الأسد. في المقابل، سوّق الأسد الابن أنّ انتفاضة عام 2011 ليست إلاّ ثورة إسلامية مسلحة متطرّفة ضد حكمه العلماني الديمقراطي، فسكت العالم مجدّداً عندما اختار أهون الشرّين. وعليه، فإن الشعب السوري الذي كان يعيش وفق ذهنية تاريخية متوعكة وذاكرة مثقوبة وأيديولوجيا آيلة للسقوط! يعيش اليوم، في المقابل، حالة عجائبية من الدونية والانهزامية، تُعرقل مشروع الحياة المواطنية الحقيقية، حتى لو أتيحت له فرصةٌ أفضل في ظروف مثالية.
يؤكّد هذه الفرضية عالم الاجتماع الأميركي هاريسون وايت، الذي سلّط الضوء على نظرية سليغمان في كتابه "الهوية والسيطرة"، مؤكّداً أنّ وضع الشخص تحت التقنيات القسرية يؤدي به إلى حالة من اللامبالاة، ومن ثم يُصاب "المُعتقل" بما أسماها "اللامبالاة الدفاعية".
الاستبداد الذي يمارسه النظام الحاكم نتاجٌ حتمي لثقافةٍ اجتماعيةٍ أنتجتها ماكينات القهر، لتُكرّس من خلالها الطغيان والطبقيَّة والاضطهاد
أفرزت جدلية العلاقة المتشنّجة بين الحاكم والمحكوم في سورية نظماً أمنية وعسكرية مصمتة ومغلقة بالكامل، ما ينسف أيّ جسور وقنوات تفاهم أو توسُّطات مدنية حقيقية مهيكلة يمكن أن تنشأ بينهما. لذا علينا أن نعترف، وبشجاعةِ مهزوم لم يبقَ ما يخسره، أنّ النظام برع في استخدام نظرية "العجز المُتعلَّم"، بعدما ثبّتَ واقع "المستنقع السوري" عبر سياسة إذكاء الاختلافات والتناقضات المجتمعية، بما فيه من أديان وطوائف وإثنيات، تتوجّس خيفة، وتضمر العداء باطنياً. وبالطبع، جاهزة للانقضاض بعضها على بعض مجرّد أن يهتز النظام بفعل زوال قبضته المحكمة عليها. كذلك عمد إلى إطالة عمرها عبر حشر تلك التناقضات تحت السطح بحيث تبدو غير ظاهرة. في الوقت نفسه، يشعر السوريون العاجزون "اللامبالون دفاعياً" أن تلك الاختلافات ستخرُج كنتيجة حتمية في حال حدوث صراعٍ مع السلطة، بما يضمن تفشّي طاعون الخوف الملازم لسرطان العجز، وقبولٍ بكلّ ما يترتب على ذلك. وهكذا، لا يجد الشعب السوري بدّاً من الخضوع للاستبداد على حساب حريته وكرامته والعدالة الاجتماعية التي ينشدُها، فاسحاً المجال، بغير قصدٍ، لحتمية الانهيار. لأنّ النظام الحاكم، ووفقاً لتلك المساومة، يصبح هو الضامن للعيش المستقر، وهو، في المخيال الانهزامي العام، من يمنع حروباً أهلية محتملةً ويضبط مكونات المجتمع التي قد تتصارَع جرّاء الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار. هذا الاستسلام "كوسيلةٍ دفاعية" هو الأخطر ضمن ديناميكية حياة الشعوب التي لا تشعر بالطمأنينة إزاء حاضرها ومستقبلها في آن. تضطرّ للقبول بواقعٍ أقلّ مرارة من الآخر، كما يقول الفيلسوف الفرنسي، إتيان دي لا بويسي، في مقالته "العبودية الطوعية": "الخضوع للطغيان لا يعني انعدام إرادة الحرية، بل الإحجام عن دفع ثمنها".
بطبيعة الحال، يدرك المتابع لما يجري على مسرح الأحداث السورية أنّ الاستبداد الذي يمارسه النظام الحاكم نتاجٌ حتمي لثقافةٍ اجتماعيةٍ أنتجتها ماكينات القهر، لتُكرّس من خلالها الطغيان والطبقيَّة والاضطهاد، حتى بلغ الشعور بالهوان درجة الاحتقان والانفجار في ثورةٍ مخيّبةٍ أكلت أبناءها، ووضعت السوري في دائرة استلاب جديدة أشاعت كل مظاهر القصور والسلبيَّة. في السياق نفسه، يكتب عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" أنَّ "عبيد السلطة غير مالكين أنفسهم، يربون أولادهم أنعاماً للمستبدّين، وأعواناً لهم عليهم". هذا يعني أنَّ حياة العجز في ظلّ الاستبداد تُصبح أداة مؤكّدة لتثبيت واقع انهيار البلاد وإعادة إنتاجه.
عمل النظام السوري كحكومةٍ زبائنية ترتهن بإرادة الأجنبي، ولا تخدم مصالح الدولة الوطنية، ولا آمال الشعب في حياةٍ كريمة
بالتساوق مع ما تقدّم، لا تزال مظاهر الصمت، بوصفها وسيلةً ناجعةً للتهرّب من دفع ثمنِ مواجهةٍ خاسرة، كما يُخيّل للعاجزين، تجد مرتعها بين جدران المدارس والجامعات، وطوابير القهر والفقر، في ليالي المدن الظلماء الباردة، إزاء التصريحات المستفزّة لمسؤولين منفصمين عن الواقع، أمام منظرِ تسرّب جثثٍ لسوريين مهاجرين إلى شواطئ طرطوس... إلخ، بما من شأن ذلك كله أن يحطّم الوجود الإنساني، ويقوّض كلّ المعاني. في وقتٍ عمل فيه النظام السوري كحكومةٍ زبائنية ترتهن بإرادة الأجنبي، ولا تخدم مصالح الدولة الوطنية، ولا آمال الشعب في حياةٍ كريمة.
ملاك القول: إنّ بلاداً تنشأ في رحم القهر وتنتهي إلى الطغيان، وما بينهما استبداد مقنّن بمفاهيم وشعارات زائفة ومضلّلة لأغلبيةٍ لا تدرك حقيقة الطغمة التي تسيطر على مصائرها، لا بدّ أن تنتهي نهاية كالدولة السورية، طالما مجتمع الضياع والعبث واللامعقول مرتهنٌ بخطاب وطني استهلاكي ديماغوجي يُلهي الجماهير، ويسيّرها كالقطيع نحو الحظيرة. وعليه، من الصعوبة بمكان أن يخرج السوريون اليوم عن قداسة "النصّ الخالد" الذي كتبه نظام استبداديّ وصائيّ غلبته شهوة السلطة، تساعده مجموعة من المطبّلين الفاسدين والمزمّرين والمثقفين الانتهازيين لتلقين القطيع السوري ثقافة العجز والطأطأة خوفاً من تكسير أسوار حظيرته.
بالعودة إلى بادئ ذي بدء، وردّاً على سؤال رويتر الافتراضي للأسد: لماذا حوّلت البلادَ إلى أنقاض؟ لأجل ماذا؟ .. يعلّق تيلو يونغ: ربما سيردّ عليك .. لأجلي.