الشرق الأوسط: بركان يهدر

الشرق الأوسط: بركان يهدر

17 ديسمبر 2022
+ الخط -

يستعدّ تاريخ الشرق الأوسط لمرحلة مقبلة من التحولات، ستطاول إفرازاته كل المعالم السياسية الحالية. لا شيء سيبقى كما هو في العراق وسورية ولبنان بشكل خاص. الدافع الأساسي هو تسارع تدهور العملات المحلية في هذه البلدان، ولم يعد أيٌّ منها قادراً، ولو بالحد الأدنى، على مساندة الآخر عبر عمليات التهريب أو التحايل على المعابر الشرعية. كأن وحدة الهلال الخصيب، في مكان ما، تتحقّق في اتحاد شعوب هذه الدول تحت بيارق الفقر واليأس وغياب الاطمئنان الاجتماعي. الحدود القومية، التي كانت في يوم صخرة يستند إليها المهرّبون لأسباب متعلقة بشرعية ما وغياب العقوبات الدولية، أصبحت أرضاً مشاعاً تبحث عمّن يعيد رسمها، ولن تجده.

كل لحظة يبرز تقريرٌ أو خبرٌ عن بؤس اجتماعي أو أفران مقفلة أو أرتال سيارات متوقفة خالية من الوقود. ولا تستشعر قلّة خائفة، على الرغم من إيحائها بالقوة، أن حافة الهاوية أصبحت أقرب مما يتوقع بعضهم، وهو ما سيجعلها تُصاب بصدمة في لحظة الارتطام. في سورية والعراق ولبنان الحديث نفسه عن فقدان مواد أساسية من السوق أو غلاء ثمنها في حال وُجدت.

لن تقف الأمور هنا، بل ستتزايد حتى انفجار الوضع كما في أوروبا الشرقية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولن يكون في وسع أي حاكم، مهما ظنّ نفسه قوياً واستند إلى شبكة من الحلفاء الإقليميين الضعفاء بدورهم، البقاء على قيد الحياة في مثل هذه الأزمنة. القطار أسرع من إمكانية اللحاق به أو إيقافه. لا يعود السبب حصراً إلى ارتباط هذه الدول بإيران، ولا إلى عقوبات غربية مفروضة عليها، ولا حتى الحروب التي نشبت فيها، بل يعود إلى عقلية محدّدة تدور حول "الحاكم البطل" والشعب المصفّق.

في الأصل، طالما كان الحاكم بعيداً عن يوميات الناس كان أقرب إلى السقوط. وإذا نجح في إيجاد حلول جماعية، لا فردية، لأزمات اقتصادية واجتماعية، سيبقى في السلطة حتى إشعار آخر. في التاريخ القديم، كان أسهل إقناع الناس بالخضوع لسلطة ما، وفق عقائد سياسية أو دينية. اليوم تغيرت الأوضاع. الخضوع مشروط برخاء اقتصادي، لا بوعد سياسي وانتظار تطبيقه سنين طويلة. ألسنا في زمن السرعة؟ الناس، كل الناس، ترغب بالحصول على بديهياتها بسرعة، وقمعها ليس حلاً، وإن بدا ناجعاً في الأيام الأولى، لأنه سيتحوّل إلى كرة ثلج في لحظة ما. هذه حتميته. ولن تشبه كرة الثلج التي ستكبر في الدول الثلاث ما سبقها في تاريخها الخاص أو على مستوى المنطقة.

ستُظهر التحولات الجديدة تبدلات جوهرية في سياسات أنظمة وحكام. لا يعني هذا أن كل شيء سيصطلح سريعاً بعد قرع جرس الانطلاق للتحوّلات، بل سيمهّد الطريق لمسارٍ مختلفٍ في بغداد ودمشق وبيروت. هذه العواصم التي تُركت على الهامش في السنوات الماضية باسم التفاهمات الإقليمية، أو الحرب على "داعش"، تقترب من قدرها بالعودة إلى واجهة الأحداث، مرّة واحدة ونهائية. أما كيف ستكون مرتكزات التحولات الجديدة، فمن المؤكّد إنها لن تخرج عن أساسيات العمل السياسي المستقبلي المرتبط بحاجات الناس، لأن الثقل الديمغرافي، المفعم بالإحباط، لن يكون نعجةً تُساق إلى الذبح بهدوء، بل أقرب إلى أسد يزأر في وجه جلّاده، ويقتله، حتى لو مات بدوره.

سيكتشف كثيرون شخصيتهم الحقيقية في تلك الأوقات، وسيفهمون أن ما كان متوفراً في السابق بصورة عادية، وفُقد حالياً، لا يمكن أن يُستردّ بغير فعل قوة. هناك بركانٌ ما يهدر تحت أرض الرمال المتحرّكة من بغداد إلى بيروت، وحين ينفجر ويقذف حممه، سيُدرك كثيرون أن خطيئة ترك أنظمة حاكمة باسم "العجز عن تغييرها" مماثلة لخطيئة "عدم اللحاق بالتغيير الآتي". وهنا، لن ينجح أي إرهابٍ ولا طلب ما في منع حركية التاريخ، ولا وقفه، ولا السير في ركبه.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".