الشجاعة السياسية المفقودة في تونس

12 فبراير 2021
+ الخط -

ما الحل؟ هذا هو السؤال الأكثر تداولا في سوق السياسة في تونس هذه الأيام. تعيش البلاد، التي تحيي ذكرى مرور عقد على إطاحة نظام زين العابدين بن علي، أزمة غير مسبوقة تهدد مكتسبات مرحلة الانتقال الديمقراطي.

العنوان الأبرز للأزمة الحالية هو التعديل الحكومي الذي أبعد فيه، أخيرا، رئيس الحكومة، هشام المشيشي، وزراء محسوبين على الرئيس قيس سعيد، وعوّضهم بآخرين مقرّبين منه، أو مرشّحين من الائتلاف البرلماني الداعم له. أغضب ذلك الرئيس، فرفض دعوة الوزراء الجدد لتأدية اليمين الدستورية. وفي مواجهة ذلك، ينقسم التونسيون عموما إلى فريق يتهم الرئيس سعيد بالشعبوية ومخالفة منطق الدستور، وآخرين يعتبرون الرئيس، مهما كانت الأخطاء التي قد يرتكبها، سدا منيعا أمام ائتلاف حكومي تحوم حوله شبهات فساد كثيرة ويبحث عن مكاسب ومنافع لفائدته على حساب الشعب.

تعيش البلاد أزمة غير مسبوقة تهدد مكتسبات مرحلة الانتقال الديمقراطي

ليس المجال هنا لتحميل المسؤوليات، لكن هذا الخلاف الذي يتصارع فيه الفرقاء هذه المرّة باعتماد فصول الدستور والفتاوى القانونية، هو بمثابة الغابة التي تغطي خلافا أكبر، يتعلق بتصورات نظام الحكم وتوزيع السلطات والتوجهات السياسية الكبرى بين الرئيس ومجموعة من الأحزاب المناصرة له، سواء كان ذلك عن قناعة ببرنامج أو نكاية في الخصوم وأحزاب "الحزام السياسي" لحكومة المشيشي.

قد تحل أزمة اليمين الدستورية، لكن الأزمة في تونس تبقى سياسية بامتياز، حتى وإن اتخذت شكلا قانونيا صرفا. ولا مجال لحل الأزمات السياسية، في أي نظام ديمقراطي، من دون الجلوس إلى طاولة الحوار. والمعنيون بالتحاور والتفاوض معا هذه المرة رئيسا الجمهورية والبرلمان بشكل خاص، باعتبار ثقلهما السياسي، ودورهما الرسمي، إذ يرى كثيرون أن رئيس الوزراء الحالي، على الرغم من الصلاحيات الواسعة الممنوحة له دستوريا، يبقى مجرد صفحة في كتاب الحسابات السياسية الكثيرة للأحزاب الداعمة له.

تتمثل المعضلة الرئيسية بوضوح هنا في عدم قبول أي طرفٍ القيام بخطوة إلى الوراء، إذ يتفق الجميع هنا، للمفارقة، على أن أي تراجع قد يسمح للطرف المقابل بمدخل للهيمنة على المشهد، وبالتالي خسارة "المعركة". يجد التونسيون أنفسهم هنا إزاء رئيس للجمهورية أقسم على عدم التراجع، معللا ذلك باحترام للدستور، وأن "تونس دخلت مرحلة جديدة من التاريخ"، كما يكرّر في كل خطاباته تقريبا، إضافة إلى أنه صاحب مقاربة مختلفة تماما عن النظام السياسي الحالي في البلاد. ويواجه قيس سعيد، في الجهة المقابلة، زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، المكبل بحسابات حزبية وسياسية معقدة، ليس أقلها عدم قدرته على المجازفة بتحالفه مع حزب قلب تونس، الذي يقبع رئيسه ومؤسسه في السجن، بسبب شبهات تهرّب ضريبي وتبييض أموال، لتأمين كرسيه في رئاسة البرلمان.

يتفق الجميع في تونس، للمفارقة، على أن أي تراجع قد يسمح للطرف المقابل بمدخل للهيمنة على المشهد، وبالتالي خسارة "المعركة". 

يتطلب الحل شجاعة سياسية تظل مفقودة. وبما أن الأزمة سياسية، يعني ذلك أن الحل ينبغي أن يكون سياسيا وشاملا، لا أن يقتصر على مأزق التعديل الحكومي فحسب، بل يتجاوزه لمعالجة الإخلالات في نظام الحكم ورفع اللبس عن فصول دستورية عمّقت بصمتها الأزمة الراهنة.

على البرلمان، وقد تدنّت الثقة الشعبية فيه، أن يجد أرضية لتوافقات الحد الأدنى، تمكن من إيجاد الآليات لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، ومن ثم تعديل النظام الانتخابي، وعدد من القوانين الأساسية الأخرى المتعلقة بالأحزاب والإعلام، قبل المرور إلى انتخابات سابقة لأوانها لتعديل الموازين وتجديد الشرعية. ففي كل أنظمة العالم الديمقراطية، حين تتقلص فرص التوصل إلى تسوياتٍ سياسية بين الفرقاء عبر الحوار، تعود الكلمة إلى الناخبين، باعتبارهم مصدر الشرعية الأساسي التي يستند إليها الحكام، لتغيير موازين القوى أو تثبيتها.

استمرار الصراع، إضافة إلى أنه سينهك المواطن الذي يواجه وضعا اقتصاديا حرجا بسبب مخلفات وباء كورونا، لا يستفيد منه سوى المعادين للتجربة الديمقراطية، والشعبويين يسارا ويمينا.

في أثناء ذلك كله، عوض التلويح بإمكانية عزله، ينبغي إيجاد أرضية للحوار وإعادة كسب الثقة مع رئيس الجمهورية، المطالب هو كذلك بأن يكون أكثر وضوحا في تصوّراته وأساليبه، وأن يلتزم قولا وفعلا بالدستور والنظام الحالي الذي قبل أن يترشح لمنصب الرئاسة وفقه، وأن يتحمل كذلك مسؤولية اختياراته.

وحتى هذه التصورات، لا يمكن أن نطلق عليها تسمية "الحل"، بل هي مجرّد مخارج قد تؤدي إلى الحل. ما عدا ذلك، يعني أن الأزمة ستتواصل، إذ لا تلوح أي مؤشراتٍ عن إمكانية تغيير الرئيس سعيد لمواقفه أو تقييماته للنخبة السياسية الممثلة في البرلمان، فالرجل قال بوضوح، في مناسبات عدة، إنه لا يقبل الحوار مع من يعتبرهم "سرقوا الشعب التونسي"، ووصفهم في مواضع أخرى بـ"الخونة".

ينبغي أن يفهم الفرقاء في تونس، أكانوا في أحزاب الحكم أو المعارضة، أن استمرار هذا الصراع، إضافة إلى أنه سينهك المواطن الذي يواجه وضعا اقتصاديا حرجا بسبب مخلفات وباء كورونا، لا يستفيد منه سوى المعادين للتجربة الديمقراطية، والشعبويين يسارا ويمينا.

 

علاء الدين زعتور
علاء الدين زعتور
كاتب وصحافي تونسي، مدير مكتب تلفزيون العربي في تونس سابقا